فانظر إلى لطفه في قوله "إذا هو أغفى" ليكون أشد مبالغة في الوصف، إذ شبهة عند إغفائه، فما ظنك به ناظراً، أو متأملاً؟! ثم نزهة عن الإغضاء.
فقال: "وهو سام نواظره" وهذه مواضع لطيفة، لا يطالعها إلا من شف جوهره، وساعدته قريحته.
103- قال أبو علي: ومن بديع هذا الباب قول عبد الله بن المعتز -على تأخر زمانه- طويل:
وخيل طواها القود حتى كأنها ... أنابيب سمر من قنا الخط ذبل
صبينا عليها ظالمين سياطنا ... فطارت بها أيد سراع وأرجل
فانظر إلى قوله "ظالمين" ما أعجبها، وأحسن موقعها، لأن قوله "ظالمين" ناف عنها هجنة الإبطاء، وفخر بأن ضربها كان من غير إحواج منها إليه البتة.
وأحسبه نظر إلى قول أعرابي متقدم طويل:
وعود قليل الذنب عاودت ضربه ... إذا هاج شوقي من معاهدها ذكر
وقلت له ذلفاء ويحك سببت ... لك الضرب فاصبر إن عادتك الصبر
104- فشتان بين هذا وبين قول أوس بن حجر طويل:
وهم لمقل المال أولاد علة ... وإن كان محضاً في العمومة مخولاً
فذكره للمال، مع قوله "مقل" حشو لا فائدة فيه.
105- وقد عيب على أبي العيال الهذلي قوله مجزوء الكامل:
ذكرت أخي فعاودني ... صداع الرأس والوصب
فذكر الرأس، مع ذكر الصداع، فضل، لو طرحه لاستغنى عن إيراده.
106- وأقبح من هذين البيتينقول الأعشى كامل:
فرميت غفلة قلبه عن شاته ... فأصبت حبة قلبها وطحالها
فتكرير ذكر القلب، لا فائدة فيه، وهجن البيت بقوله "وطالحها" أقبح تهجين، وقد احتج قوم "طحالها"، لأنه أراد: أصبت مقتلها، إذا كان الطحال مقتلاً.
107 ودون ذلك قول ديك الجن كامل:
فتنفست في البيت إذ مزجت ... بالماء، واستلت سنا اللهب
كتنفس الريحان ما زجه ... من ورد جور ناضر الشعب
فقوله "بالماء" مع ذكره "مزجت" لا فائدة فيه، لأنه مستغن بقوله "مزجت" عن ذكر الماء، وإنما اعتمد فيه على قول أبي نواس كامل:
سلبوا قناع الطين عن رمق ... حيي الحياة مشارف الحتف
فتنفست في البيت إذ مزجت ... كتنفس الريحان في الأنف
أبدع بيت قيل في الإغراق
وبعضهم يسميه الغلو
108 قال أبو علي: وجدت العلماء بالشعر يعيبون على أبيات الإغراق، ويختلفون في استهجانها واستحسانها، ويعجب بعض منهم بها، وذلك على حسب ما يوافق طباعه واختياره، ويرون أنها من إبداع الشاعر الذي يوجب الفضلة له، ويقولون: إن أحسن الشعر أكذبه، وإن العلو إنما يراد بله المبالغة، قالوا: وإذا أتى الشاعر من الغلو بما يخرج به عن الموجود، ويدخل في باب المعدوم، فإنما يراد به المثل، وبلوغ الغاية في النعت.
واحتجوا بقول النابغة -وقد سئل من أشعر الناس؟ فقال-: "من استجيد كذبه، وأضحك رديه" وقد طعن قوم على هذا المذهب، لمنافاته الحقيقة، وأنه لا يصح عند التأمل والفكرة.
109 وأنا ذاكر من أعيان أبيات الإغراق، وما يتعلق بالمذاكرة، إذ كان كتابي هذا مقصوراً على ما جانبها، وناسبها.
110 فمن الأبيات المشار إليها في الإغراق، قول قيس بن الخطيميصف طعنة طويل:
طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
ملكت بها كفى فانهرت فتقها ... يرى قائم من دونها ما وراءها
-أنهرت: وسعت-
111قال أبو علي: وقول عنترة في مثل ذلك من وصف طعنة كامل:
برحبة الفرعين يهدي جرسها ... بالليل معتس السباع الضرم
112 ومن الإغراق، قول النمر بن تولبيصف سيفاً بسيط:
ابقى الحوادث والأيام من نمر ... أسباد سيف قديم أثرد باد
تظل تحفر عنه إن ضربت به ... بعد الذراعين والساقين والهادي
113 وفي قول النابغة في هذا المعنى إغراق، إلا أنه أسفر مطلعاً وأسهل مشرعاً طويل:
نقد السلوقي المضاعف نسجه ... وتوقد بالصفاح نار الحباحب 114 قال آخر في وصف ضربة، وأغرق سريع)
ضربته في الملتقى ضربة ... فبان عن منكبه الكاهل
فصار ما بينهما رهوة ... يمشي بها الرامح والنابل
قال أبو علي: النبال: الذي يعمل النبل، والنابل: الذي يحمل النبل، وكذلك سياف وسايف، ورماح ورامح، وما جرى مجراه.