وأما تشبيهه الإدراك بالليل، فقد ساوى الليل والنهار فيما يدركانه، وإنما كان سبيله أن يأتي بما ليس له قسيم، حتى يأتي بمعنى ينفرد به، ولو شاء قائل أن يقول إن قول البحتري في هذا أحسن، لوجد مساغاً إلى ذلك، حين يقول طويل:
فلو كنت بالعنقاء أو بأسومها ... لخلتك إلا أن تصد تراني
أما قوله "طاوي المصير، كسيف الصيقل الفرد" فالطرماح أحق بهذا المعنى لأنه أخذه فجرده وزاد عليه وقال كامل:
يبدو، وتضمره البلاد كأنه ... سيف على شرف يسل ويغمد
فقد جمع في هذا البيت استعارة لطيفة بقوله "وتضمره" وتشبيه اثنين باثنين، بقوله: "يبدو ويخفى، ويسل ويغمد" جمع حسن التقسيم، وصحة المقابلة".
83 قال الأصمعي: "فاستبشر الرشيد، وبرقت أسارير وجهه، حتى خلت برقاً يومض منها، وقال يحيني: فضلناك ورب الكعبة -واستقبح يحيى، فكأن الرماد ذر على وجهه- فقال الفضل: لا تعجل يا أمير المؤمنين حتى أمر ما قلته أيضاً على سمعه، فقال: "قل! ".
84 فقال الفضل: "أحسن الناس تشبيهاً طرفة في قوله طويل:
يشق حباب الماء حيزومها بها ... كما قسم التراب المقابل باليد وفي قوله طويل:
لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى ... لكالطول المرخى وثنياه في اليد وفي قوله طويل:
ووجه كأن الشمس ألقت قناعها ... عليه، نقي اللون لم يتخدد
85 قال: "فقلت هذا حسن، وغيره أحسن منه وقد شاركه في هذا المعنى جماعة من الشعراء قبل وبعد، فطرفة صاحب واحدة لا يقطع بقوله في سواها وإنما يعد من أصحاب الواحدة".
86 قال: "ومن أصحاب الواحدة؟ "قلت: "الحارث بن حلزة في قوله خفيف:
اذنتنا ببينها أسماء ... رب ثاو يمل منه الثواء
والأسعر الجعفي في قصيدته التي أولها:
خل دار قلبك من سليمى ما ... شفى ولقد عيب عليها فيما مضى
والأفوه الأودي في قوله رمل:
إن ترى رأسي فيه نزع ... وشواتي خلة فيها دوار
وعلقمة بن عبدة في قوله طويل:
طحا بك قلب في الحسان طروب ... بعيد الشباب عصر حين مشيب
وسويد بن أبي كاهل في قوله رمل:
بسطت رابعة الحبل لنا ... فوصلنا الحبل منها ما اتسع
وعمرو بن كلثوم في قوله وافر:
أمن ريحانة السميع ... يورقني وأصحابي هجوع
فاستخف الرشيد الأريحية وقال: "ادنه، فإنك جحيش وحدك" فزاد في عيني نبلاً.
87 فقال جعفر متمثلاً: "ليت قليلاً يلحق الهيجا حمل" يعرض بأنه قد يجوز أن يدرك هو، بما يحاوله، فقال الرشيد: "فاتتك والله السوابق، وجئت سكيتاً ذا روائد أربعاً" -قال- "ورأيت الحمية في وجهه" فقال جعفر: "على شريطة حلمك يا أمير المؤمنين" قال: "أتراه يسع غيرك، ويضيق عنك!؟ "فقال جعفر: "لست أنص على شاعر واحد أنه صاحب أحسن بيت واحد تشبيهاً، ولكن قول امرئ القيس طويل:
كأن غلامي إذا علا ظهر متنه ... على ظهر باز في السماء محلق
وقول عدي بن الرقاع كامل:
يتعاوران من الغبار ملاءة ... غبراء محكمة، هما نسجاها
تطوي إذا وردا مكاناً جاسياً ... وإذا السنابك أسهلت نشراها
وقول النابغة طويل:
فإنك شمس والملوك كواكب ... إذا طلعت لم يبد منهن كوكب
88 قال الأصمعي: "هذا كله حسن بارع، وغيره أحسن منه.
وإنما يجب أن يقال التعيين على ما يفترعه" قائله، فلم يتعرض له، أو تعرض له شاعر بعده، فوقع دونه، فأما قول امرئ القيس "على ظهر باز في السماء محلق" فمن قول أبي دؤاد.
متقارب:
إذا شاء راكبه ضمه ... كما ضم باز إليه الجناحا
وأما قول عدي بن الرقاع "يتعاوران من الغبار ملاءة" فمن قول الخنساء كامل:
جاري أباه فأقبلا وهما ... يتعاوران ملاءة الخضر
وأول من أطلق هذا المعنى، شاعر جاهلي قديم من بني عقيل، فقال طويل:
ألا يا ديار الحي بالبردان ... عفت حجج بعدي لهن ثمان
فلم يبق منها غير نوي مهدم ... وغير أثاف كالركي رهان
وأثار هلب أزرق اللون دابر ... عفته الريح والأنواء كل مكان
قفار مرورات يحاربها القطا ... ويضحي بها الجأيان يعتركان
يثيران من نسج الغبار عليهما ... فميصين: أسمالاً ويرتديان