نام کتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي نویسنده : شوقي ضيف جلد : 1 صفحه : 286
فكان طبيعيًّا أن يختلف ذوقه عن ذوق البدو وأن يأتي بمثل هذه المعاني التي تروق ممدوحيه من الأمراء.
وإذا كان النابغة يتفوق في المديح تفوقًا ظاهرًا؛ فإنه كذلك يتفوق في الاعتذار، وكأن ذوقه الحضري هو الذي أعدَّه لهذا التفوق؛ إذ نحس فيه رقة في اللهجة وإلحاحًا في التلطف محاولًا أن يزيل من نفس النعمان بن المنذر ظنه السيء فيه. وقد استعان بموهبته في اختراع الصور والمعاني والتدقيق فيها، مدبجًا في ذلك قصائد طوالًا تعد من أروع ما خلّفه العصر الجاهلي لا لطولها فحسب؛ بل لما فيها من صدق اللهجة وسهولة اللفظ وحسن ديباجته. وقد أسعفه في ذلك ذوقه الحضري الذي خلصه من خشونة البدو ومن الأنفة الجامحة؛ فإذا ذنبه يكبر في نفسه، وإذا هو يحس كأنه أتى جريرة لا تغتفر، فما يني يقدِّم للنعمان المعاذير متخذًا إليه كل ما يستطيع من البراهين ومن سبل التلطف والملاينة. وقد يؤديه ذلك إلى غير قليل من التذلل والاسترحام، حفاظًا على صداقته القديمة له واستبقاء لوده، وهو حسن تأت لا صغار نفس ولا مهانة، ولا طلبًا لعصافير النعمان كما قال أبو عمرو بن العلاء؛ وإنما هو الذوق الحضاري الذي اكتسبه النابغة والذي جعله يختلف عن معاصريه ويقترب من ذوق العباسيين المتحضرين، حين يشعرون بضخم ذنبهم لدى الممدوحين ويأخذون في التنصل منه، وتقديم شتى المعاذير. وهو يخلط اعتذاره بمديح النعمان والثناء عليه، وارجع إلى المعلقة فستراه يستهلها بوصف أطلال درامية، ثم وصف ناقته التي قطع بها الصحراء إلى مقصده مفتنًّا في تصويرها، ومشبهًا لها بثور تناضله كلاب الصيد؛ حتى إذا انتهت به إلى النعمان أخذ يمدحه بكرمه الفياض وما وهبه من قطعان الإبل والخيل ومن الجواري المنعمات، ثم مضى يستعطفه قائلًا:
فَلا لَعَمرُ الَّذي مَسَّحتُ كَعبَتَهُ ... وَما هُريقَ عَلى الأَنصابِ مِن جَسَدِ1
وَالمُؤمِنِ العائِذاتِ الطَيرِ تَمسَحُها ... رُكبانُ مَكَّةَ بَينَ الغَيلِ وَالسَعَدِ2
1 مسحت: لمست ألتمس البركة. هريق: سال. الجسد: الدم. الأنصاب: الحجارة التي كانوا يذبحون عليها قرابينهم للآلهة.
2 المؤمن: الذي آمنها من الخوف. العائدات: اللاجئات إلى الحرم. تمسحها الركبان: يريد أنها تمسح عليها ولا تهيجها بصيد. الغيل والسعد: أجمتان بين مكة ومنى.
نام کتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي نویسنده : شوقي ضيف جلد : 1 صفحه : 286