نام کتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي نویسنده : شوقي ضيف جلد : 1 صفحه : 284
غير أن النابغة فصلَّ الصورة حتى يحكم المعنى ويكشفه كشفًا دقيقًا؛ فالنسور والعقبان خزر العيون، وهي تشبه في ألوانها ثياب المرانب السوداء التي يلبسها الشيوخ، وهي تسير خلفهم موقنة بأنها لا بد أن تجد زادها من أعدائهم، وأنها على وشك الوقوع على ما تريد من هذا الزاد، وهي لذلك لا تزال جانحة، عادة عرفتها فيهم لا يخلفونها ولا يمطلونها. وقد أعجب القدماء طويلًا بهذه الصورة عند النابغة، فتعاور عليها الشعراء، وكل منهم يحاول أن يثبت مهارته وقدرته[1].
ويمضي النابغة فيصور شجاعة الجيش، وما على خيله من أثر للطعان وجروح بين مدم ومتجمد عليه الدم. ونلاحظ هنا الدقة في الوصف، وهي دقة استتبعت ضربًا من الطباق. وقد صورهم يتساقون كئوس المنية؛ كناية عن جرأتهم في الحرب واقتحامهم لأهوالها، ثم صور كيف يثخنون في أعدائهم، ولم يلبث أن جاء بصورة طريفة ظاهرها ذم وباطنها مدح شديد؛ فالغساسنة لا عيب فيهم إلا عيب واحد، وهو ليس في حقيقته عيبًا؛ بل هو مفخرة من مفاخرهم، فسيوفهم مفللة من طول قراعها ومضاربتها للكتائب. ومثل هذا التعبير الذي سبق إليه يدل على أنه كان يدقق في معانيه وألفاظه جميعًا. ولم ينس أن يشير إلى نصرهم القديم في يوم حليمة الذي هزم فيه المناذرة شر هزيمة؛ حتى لقد قُتل المنذر بن ماء السماء في ساحة المعركة. وقد جعل سيوفهم المفللة تشق الدروع المتينة وتمزق أصحابها تمزيقًا مطيحة برءوسهم ومرسلة شررًا لا ينقطع ضياؤه حتى لكأنه أشعة الحباحب، وسيولًا من الدماء كأنها إيزاغ المخاض. حتى إذا استوفى كل ما أراد من تصويرهم بالشجاعة في ميادين الحروب انتقل يصورهم في سلمهم متحدثًا عن شيمهم وشمائلهم ودينهم ونعيمهم، يقول:
لهم شيمَةٌ لم يُعْطها اللهُ غيرهم ... من الجود، والأَحلامُ غَيْرُ عَوَازِبِ[2].
محلَّتُهم ذاتُ الإِله، ودينُهم ... قويمٌ فما يرجون غيرَ العواقب3 [1] انظر الصناعتين للعسكري: "طبعة الحلبي" ص225 والوساطة الجرجاني: "طبعة الحلبي" ص274. [2] الأحلام: العقول. عوازب: جمع عازب وهو الغائب.
3 محلتهم: منزلتهم، ذات الإله: يقصد كنائسهم.
نام کتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي نویسنده : شوقي ضيف جلد : 1 صفحه : 284