أولية العربية في الكوفة:
وقد رأينا المتوسمين بالأدب لا يميزون عهد الكوفيين من عهد البصريين، ولا يدرون متى اشتغل الكوفيون بالمذاهب المقصورة عليهم، والحدود المنسوبة إليهم؛ بل يحسبون أن أول بصري في النحاة وجد معه أول نحوي من الكوفيين؛ وذلك جهل فاحش بتاريخ الرواية والجبهة المتقدمة في الرواة, ونحن لم نقف على كلام لأحد في أولية العربية بالكوفة، بيد أن ذلك لم يقعد بنا عن التتبع والاسترواح، كسائر ما نستفرغ الهم فيه من أصول هذا الكتاب وفصوله.
والذي ثبت لنا أن أولية العربية إنما كانت في البصرة؛ لأن أبا الأسود الدؤلي قد نزل لها وأخذ عنه جماعة هناك، فكان كل أصحابه الذين شققوا العربية بعده بصريين ثم انتقل النحو إلى الكوفة، وكانت الرواية فيها مقصورة على الشعر وما يتصل به من النسب والخبر، كشأنها من أول العهد بالإسلام؛ ومن أقدم رواتهم الخثعمي، وقد أومانا إليه من قبل، ومنهم ثم من أعلمهم، أبو البلاد الكوفي، وكان أعمى جيد اللسان، وهو في زمن عبد الملك بن مروان، فلا بد أن تكون نشأته في منتصف القرن الأول؛ ثم ظهر بعده حماد الراوية، ولهو لحانة لا يذكر في العربية؛ ولكن أول من عرف بالنحو من الكوفيين إنما هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي المتوفى سنة 164هـ، وكان بصريا ثقة، غير أنه انتقل إلى الكوفة وسكن بها زمانًا، وهو من تلامذة أبي عمرو بن العلاء؛ وظهر معه معاذ الهراء واضع التصريف، وقد عمر طويلًا حتى قارب المائة، وتوفي سنة 187هـ، ثم نجم رأس علماء الكوفيين وأستاذهم وأول من ألف منهم كتابًا في العربية، وهو أبو جعفر الرؤاسي، وكان معاذ الهراء عمه، فأخذ عنه، ثم أخذ عن عيسى بن عمر من تلامذة أبي الأسود، وعن هذين "معاذ والرؤاسي" أخذ علي بن حمزة الكسائي المتوفى سنة 189هـ، وهو الذي رسم للكوفيين الحدود التي عملوا عليها وخالفوا بها البصريين؛ وكان فيهم كالخليل بن أحمد في أولئك.
ثم استفاض نحو الكوفيين من بعده، وتوسع فيه تلميذه الفراء حين ألف كتاب "الحدود"، وكان المأمون أمره أن يؤلف ما يجمع به أصول النحو وما سمع من العرب، وأمر أن تفرد له حجرة من حجر الدار "دار الحكمة"، ووكل به من يكفيه كل حاجته حتى لا يتعلق قلبه ولا تتشوق نفسه إلى شيء، وحتى إنهم كانوا يؤذنونه في حجرته بأوقات الصلوات "تأمل وترحم على ملوك العلماء" وصير له الوراقين، وألزمه الأمناء والمنفقين، فكان الوراقون يكتبون وهو يملي حتى صنف الحدود[1].
وفي الكسائي وتلميذه يقول ابن الأنباري "وهو من الكوفيين أيضًا": لو لم يكن لأهل بغداد والكوفة من علماء العربية إلا الكسائي والفراء، لكان لهم بهما الافتخار على جميع الناس؛ إذ انتهت العلوم إليهما، وكان يقال: الفراء أمير المؤمنين في النحو.
ومن لدن الكسائي غلب أهل الكوفة على بغداد، لخدمتهم الخلفاء وتقديمهم إياهم كما علمت، فغلبوا بذلك البصريين على أمرهم، ورغب الناس من يومئذ في الروايات الشاذة، وتفاخروا بالنوادر، وتباهوا بالترخيصات، وتركوا الأصل واعتمدوا على الفروع، ومن ذلك بدأ اختلاط المذاهب الذي عده البصريون اختلاطًا للعلم؛ لأن مذاهب الكوفيين ليست عندهم من العلم الصريح. [1] هذا تفسير ما مر من قولهم: لولا الفراء لما كانت اللغة.