البصريون والكوفيون:
وهما الطائفتان اللتان عصب بهما طلاب العربية، وقد تضافرتا جميعًا على استخراج هذه العلوم بعد أن كانت السابقة فيها للبصريين بما أصلوا وفرعوا؛ وكان في هؤلاء غريزة التحقيق والتمحيص دون الكوفيين، فبغت لذلك إحدى الطائفتين على الأخرى نفاسة وحسدًا، ثم استطار الجدال بينهم فوقعوا من المناظرة في أمر مستدير، وتباين ما بين الفئتين إلا حيث تتصلان في الكلام لتدفع إحداهما الأخرى. ومن ثم جعل الكوفيون، يتمرءون بخصومهم[1]، فينتقصونهم ليعد ذلك منهم قدرة على الكمال، ويعيبون الرجال ليكونوا هم وحدهم الرجال. أما البصريون فكانوا يريدون أن أصحابهم لو ركبوا في نصاب رجل واحد ما بلغوا أن يعدلوا أضعف رجل في البصرة؛ وقد رموهم في باب الكذب بقمص الحناجر، والأخذ عن كل بر في الرواية وفاجر، وجعلوهم من علماء الأسواق، وتلامذة الأوراق، ولشد ما اندرءوا جميعًا بعضهم على بعض بمثل هذا الكلام، وقاموا في المناظرة كل مقام؛ على أن العلم منذ وجد إنما تخلص حقائقه بالجدال؛ فرحم الله الغالب فيه والمغلوب. [1] تمرأ به: إذا طلب المروءة بنفضه.
صفحة في التاريخ لما يسمى بصريا أو كوفيا من هذا العلم.
ولما دونت كتب الأئمة في اللغة وتناقلها روايتها بالأسانيد، كثر فيها التزيد، وركب النساخ منها عبثًا كثيرًا، إلى أن جاء الأزهري المتوفى سنة 370هـ، وهو صاحب كتاب "التهذيب"؛ فتفقد كتبهم، وتأمل نوادرهم، ونظر في الكلام المصحف، والألفاظ المزالة عن وجهها أو المحرفة عن معناها، وما أدخل في الكلام مما هو ليس من لغات العرب، وما اشتملت عليه الكتب التي أفسدها الوراقون وغيرها المصحفون؛ واعتبر كل ذلك اعتبار ناقد يتصفح على الرواة ويطلب مواضع الثقة فيما يروى عنهم؛ ثم إنه بعد أن أمعن في ذلك واستقصى، قال: إنه وجد عظم ما روي لابن الأعرابي وأبي عمرو الشيباني وأبي زيد وأبي عبيدة والأصمعي معروفًا في الكتب التي رواها الثقات عنهم والنوادر المحفوظة لهم، فخص بالثقة هؤلاء دون سائر الرواة.
ولما عد في مقدمة كتابه "التهذيب" ثقات الرواة، وهم أولئك الذين عرفتهم، ووصفهم بالإتقان والتبريز ووثقهم، قال: فلنذكر بعقب ذكرهم أقوامًا اتسموا بسمة المعرفة وعلم اللغة، وألفوا كتبًا أودعوها الصحيح والسقيم، وحَشوها بالمزال المفسد والمصحّف المغير، الذي لا يتميز ما يصح منه إلا عند الثقة المبرز، والعالم الفطن، وعد من هؤلاء: الليث بن المظفر الذي نحل الخليل تأليف كتاب "العين"[1]، وقطربًا، وقال: كان متهمًا في رأيه وروايته عن العرب؛ والجاحظ، وقال فيه: إن أهل المعرفة بلغات العرب ذموه، وعن الصدق دفعوه؛ ثم ابن قتيبة وابن دريد. [1] في هذا الكتاب ونسبته إلى الخليل كلام كثير لم نجد له متسعًا في هذا الباب فأرجأناه إلى باب العلوم حيث نقول في علم اللغة وتدوينه.