الرواية عنه كأنه ديوان من أبلغ الشعر, مدحه خالص له من دون الناس، وإنشاده دائر في ألسنة الناس جميعًا؛ لأنهم رأوا آثار بني أمية وأرادوا أن يطمسوا عليها وينسوا الناس أخبارهم ولا يدعوا للرواة بابًا من الذكرى، وصار الناس يومئذ أوفر ما كانوا إقبالًا على مجالس الرواة، وأشد ما كانوا حاجة إليه؛ لشيوع العلوم وتنافس الخاصة فيها؛ حتى لا يشك من يقف على تاريخ الرواة أنهم كانوا في أمصارهم كأنهم خلفاء الدولة العظمى التي تعنو لها الدول كافة وهي دولة التاريخ.
ولقد كان الرشيد يجلس الكسائي ومحمد بن الحسن على كرسيين بحضرته ويأمرهما أن لا ينزعجا لنهضته, وكان يطارح الرواة ويناشدهم ويذاكرهم به ولما رآهم يقصرون الرواية على أشعار الجاهليين والمخضرمين ممن يحتج بهم في العربية، اتخذ له منشدًا يروي أشعار المحدثين خاصة وينشده إياها، وهو محمد الراوية المعروف بالبيدق "لقب بذلك لقصره" وكان إنشاده يطرب كما يطرب الغناء ولم يرو مثل ذلك عن أحد قبل الرشيد.
أما المأمون فناهيك من خليفة عالم، وهو لم يزل منذ دخل العراق يراسل الأصمعي في أن يجيئه "من البصرة"، وكان لا ينفك يعد أصحابه في مجالسه ويقول: كأنكم بالأصمعي قد طلع, ولكن الأصمعي احتج بضعف وكبر وعلل، ولم يجب إلى ذلك، فكان المأمون يجمع المسائل وينفذها إليه بالبصرة ثم ينتظر جوابها.
ولما كان أبو عبيدة مع عبد الله بن طاهر، ألف كتاب "غريب الحديث" وعرضه عليه، فاستحسنه ابن طاهر وقال: إن عقلًا بعث صاحبه على عمل مثل هذا الكتاب، لحقيق أن لا يخرج عنا إلى طلب المعاش, فأجرى له عشرة آلاف درهم في كل شهر، ولزمه بعد ذلك، فوجه إليه أبو دلف "يستهديه أبا عبيدة مدة شهرين"، فأنفذه إليه ابن طاهر، فلما انسلخ الشهران أراد الانصراف فوصله أبو دلف بثلاثين ألف درهم، فردها وقال: أنا في جنبة رجل ما يحوجني إلى صلة غيره، ولا آخذ ما فيه على نقص. فلما عاد ابن طاهر وصله بثلاثين ألف دينار، فعوضه من كل درهم دينار!!
والأمثلة من ذلك مستفيضة لا نطيل باستقصائها، وما من كتاب في الأدب والمحاضرة إلا وأنت واجد فيه شيئًا منها ومن أخبار الملوك والأمراء ومجالسهم مع الرواة.
وكان آخر خليفة جرى على هذه السنة العربية من مجالسة الندماء وتقريب العلماء، هو الراضي بالله المتوفى سنة 328هـ "وبويع سنة 322هـ" وهو كذلك آخر خليفة كانت مراتبه وجوائزه وخدمه وحجابه تجري على قواعد الخلفاء المتقدمين، وكانت الرواية يومئذ قد بدأت آخرتها أيضًا، بيد أن الأمراء الذين استبدوا بالأمصار الإسلامية بعد ذلك، كآل بويه، وآل حمدان، وغيرهم، لم يألوا جهدًا في إحياء تلك السنة، والإفضال على العلماء، إلا أن هؤلاء كانوا غير الرواة كما بسطناه في موضعه، ولذا نجتزئ بما أوردنا، فإن أكبر غرضنا من هذا الفصل أن نخلص إلى الكلام على موضع الرواة من أنفسهم، ولم يكن لذلك سبيل إلا من الكلام على موضعهم من الناس.