يزيد ابنه، ويريه أنه إنما يفزع إلى رأيه فيما يلم حتى يستخرج أقصى ما عنده ويعركه بالخلافة قبل أن يصير خليفة.
وقال أبو الحسن المدائني: كانت بنو أمية لا تقبل الراوية إلا أن يكون راوية للمراثي، قيل: ولم ذاك؟ قال: لأنها تدل على مكارم الأخلاق ... فعفا الله عن أبي الحسن ظنه حتى اعتبر السياسة بالعلم! ولقد سئل أعرابي: ما بال المراثي أجود أشعاركم؟ قال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق! وإنما كان بنو أمية رجال مرزأة وحروب وفتن عربية؛ ولم يقم أمرهم إلا بدعوى المطالبة بدم عثمان؛ فكان همهم أن لا ترقأ الدمعة ولا تطفأ اللوعة، وأن تبقى في القلوب معان رقيقة تهيجها المراثي فتنقدح بها المعاني الغليظة في المقاتلة والمسترزقة من العامة، وهم قوة الدعوة، ومن قلوبهم قوت السياسة، وقد استقام لهم بذلك عمود من الأمر كان مائلًا، وحق كان فيما ظنه غيرهم باطلًا.
ولما استخلف عبد الملك بن مروان، أخذ بسنة معاوية، واقتدى به في إحكام السياسة وحسن التأتي للأمور، وكأن القلوب المضطربة قد استقرت أو كادت، والأعناق المائلة قد استقامت بعد أن مادت؛ فبسط عبد الملك بره للرواة، وألان لهم جانبه، وكان لا يجالسه من الناس غير ذي علم وأدب, وهو الذي قال فيه الشعبي: "ما ذاكرت أحدًا إلا وجدت لي الفضل عليه؛ إلا عبد الملك، ما ذاكرته حديثًا إلا رادني فيه، ولا شعرًا إلا زادني فيه"! ولذا اجتمع إليه الشعراء وعلماء الأخبار ورواة الناس، وضربوا إليه آباط الإبل شرقًا وغربًا، حتى حفلت بهم مجالسه، وازدهت أيامه؛ وكان يذاكرهم ويحادثهم وينوه بهم ويدني مجالسهم، ومن أجله أطلق الأدباء على دولة بني أمية قولهم: "المروانية" على جهة التغليب؛ لأن من بعده أخذوا في طريقته واتبعوا أثره وزادوا عليه بمقدار ما اتسع في أيامهم، حتى كانوا ربما اختلفوا وهم بالشام في بيت من الشعر أو خبر أو يوم من أيام العرب، فيبردون فيه بريدًا إلى العراق.
وحدث أدباء البصرة أنهم كانوا يرون كل يوم راكبًا من ناحية بني مروان ينيخ على باب قتادة بن دعامة السدوسي الراوية "وكان أجمع الناس توفي سنة 117هـ" يسأله عن خبر أو نسب أو شعر، وربما سار هذا الراكب بالكلمة عن قتادة فأبلغها بالشام ثم عاد ليسأله عن معنى في نفس جوابه، حتى يكون الجواب مما يحسن السكوت عليه؛ وهذا لعمر أبيك علم الملوك!
وقد بعث هشام بن عبد الملك في إشخاص حماد الراوية من الكوفة، لبيت خطر بباله لا يعرف صاحبه، وهو قول عدي بن زيد:
ودعو بالصبوح يومًا فجاءت ... قينة في يمينها إبريق
وقطع حماد طريقه إلى دمشق في اثنتي عشرة ليلة، ليذكر له صاحب البيت وسائر القصيدة.
وما كان الناس يومئذ -وهم على دين ملوكهم- بأقل رغبة في الرواة والعلماء والمتوسمين بالأدب، وخاصة بعد أن توطد أمر الرواية حتى قال عمرو بن العلاء: لو أمكنت الناس من نفسي ما تركوا لي طوبة! ... يصف تدافعهم وازدحامهم عليه.
أما العباسيون وأمراء دولتهم، وهم أهل العلوم والحكمة والأدب، فوالله إن كان أحدهم ليرى