ولم يرتفق والناس محتضرونه ... جميعًا وأيدي المعتفين رواهقه
وقال الحرمي: في كتاب سيبويه ألف وخمسون بيتًا، سألته عنها فعرف ألفًا ولم يعرف الخمسين[1]. أما شواهد اللغة والغريب فلم يحصها الرواة؛ لأن مادتها أكثر شعر العرب، ولأن اللغة لم تكن علمًا برأسه.
شواهد أخرى:
وهنا ضرب ثالث من الشواهد نشأ في القرن الثالث، وهو ما يولده بعض المعتزلة والمتكلمين للاستشهاد به على مذاهبهم، وكان رواية الشعر فيهم يومئذ عامة؛ قال ابن قتيبة في "التأويل": وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يرده إلى مذاهبهم ويجعلوا التأويل على نحلهم، فقال فريق منهم في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] أي: علمه، وجاءوا على ذلك بشاهد لا يعرف وهو قول الشاعر:
ولا يكرسئ علم الله مخلوق2
ونقل الجاحظ في "الحيوان" أنهم يدفعون أن الرجوم كانت حجة للنبي صلى الله عليه وسلم، واحتجوا على ذلك بأن عرب الجاهلية رأت الرجوم, ووضعوا أشعارًا في ذلك منها ما نسبوه لأوس بن حجر، وهو قوله:
فانقض كالدري من منحدر ... لمع العقيقة جنح ليل مظلم
قال الجاحظ: فخبرني أبو إسحاق أن هذا البيت في أبيات أخر لأسامة صاحب روح بن همام وهو الذي كان ولدها.
ونجتزئ من الكلام عن شعر الشواهد بهذا المقدار؛ لأنه جماع الباب كله على كثرة شواهده، ونوفر فوائده. [1] ذكر العلامة اللغوي المرحوم الشيخ محمد محمود الشنقيطي نزيل مصر المتوفى بها سنة 1313هـ في حماسته المطبوعة، أنه علم واحدًا من هذه الخمسين، وهو قول القائل:
أفبعد كندة تمدحن قبيلا
قال: وهو لامرئ القيس، من قصيدة أوردها هناك من ثمانية عشر بيتًا، وذكر أنه نقلها مع شرح ديوان امرئ القيس رواية أبي سهل بن خرابنداذ عن أبي جعفر الكوفي، ثم قال: ولكون الديوان برواية الكوفيين خفي على البصريين وغيرهم معرفة قائل الشاهد المذكور مع شهرته ومسابقة الناس إلى حفظ أشعاره.
قلنا: ولكن الشيخ رحمه الله ذهب عنه ما روي عن يونس بن حبيب الضبي من أن علماء البصرة كانوا يقدمون امرأ القيس، وأن أهل الكوفة كانوا يقدمون الأعشى، وقد دفع البصريون أشعارًا لامرئ القيس وزهير وغيرهما مما انفرد بروايته الكوفيون، وأورد العسكري شيئًا من ذلك في كتابه "التصحيف"، والصحيح أن تلك الأبيات موضوعة على امرئ القيس لنزولها عن طبقته وظهور الصنعة والتوليد فيها، ولا بد أن تكون الخمسون أو معظمها من هذا الطراز.
وقد أثبتنا هذه الكلمات لهذه الفائدة, ثم لنذكر المرحوم الشنقيطي، فإنه آخر من ضمه التاريخ ممن يمكن أن يوصف ببعض صفات الرواة المتقدمين.
2 قلت: يكرسئ، مضارع "كرسأ" بوزن "دحرج". من توليد بعض المتكلمين يزعم أنه بمعنى: علم.