سنبينه، قال الأندلسي في شرح المفصل: "والكوفيون لو سمعوا بيتًا واحدًا فيه جواز شيء مخالف للأصول جعلوه أصلًا وبوبوا عليه، بخلاف البصريين" وأول من سن لهم هذه الطريقة شيخهم الكسائي، قال ابن درستويه: كان يسمع الشاذ الذي لا يجوز إلا في الضرورة فيجعله أصلًا ويقيس عليه، فأفسد النحو بذلك.
ولهذا وأشباهه اضطر الكوفيون إلى الوضع فيما لا يصيبون له شاهدًا إذا كانت العرب على خلافهم؛ وتجد في شواهدهم من الشعر ما لا يعرف قائله؛ بل ربما استشهدوا بشطر بيت لا يعرف شطره الآخر، كالشاهد الذي يحتجون به على جواز دخول اللام في خبر لكن، وهو قول القائل المجهول:
ولكنني من حبها لعميد
واستمروا على الوضع حتى بعد أن استبحرت الرواية في أواخر القرن الثالث؛ قال المبرد المتوفى 285 وهو من البصريين: قال لي أبو عكرمة الضبي: ما يساوي نحوك عند ابن قادم شيئًا! "وابن قادم من الكوفيين" قلت: كيف؟ قال: لأن له لغة بخلاف هذه، وشواهد من الشعر عجيبة, فجعل ينشدني ويحدثني ويضحك، فكان من ذلك أن قال لي: سمعته يقول: أرز، ورنز؛ ثم أنشد:
قربا يا صاح رنزه ... واجعل الأصل إوزه
واصفف القينات حقا ... ليس في القينات عزه
فقلت له: من يقول هذا؟ قال: بعض العرب المتحضرة، فقلت: بل بعض النبط المتقذرة. ا. هـ.
ومن أجل هذا وأمثاله كان البصريون يغتمزون على الكوفيين فيقولون: نحن نأخذ اللغة عن حرشة الضباب وأكلة اليرابيع، وأنتم تأخذونها عن أكلة الشواريز والكواميخ[1]. على أن البصريين وإن تثبتوا في أشعار الشواهد فقد وقع لهم أشياء من الموضوع وجازت عليهم، وهذا سيبويه الذي سمي كتابه "قرآن النحو" وقيل فيه إن شواهده أصح الشواهد؛ سأل اللاحقي: هل تحفظ للعرب شاهدًا على إعمال فُعِلٌ "الصفة"؟ قال اللاحقي: فوضعت له هذا البيت:
حذر أمورًا لا تضير، وآمن ... ما ليس منجيه من الأعداء
وقال المبرد في "الكامل"[2]: وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة وكلاهما مصنوع، وليس أحد من النحويين المفتشين يجيز مثل هذا في الضورة ... والبيت الأول:
هم القائلون الخير والآمرونه ... إذا ما خشوا يومًا من الأمر معظما
والثاني: [1] حرش الضب: صاده، واليربوع: دويبة، والشواريز: الألبان الثخينة، والكواميخ: المخللات يشهى بها الطعام، والمراد الأخذ عن أعراب البادية الجفاة وأعراب الأسواق الضعفاء. [2] كان المبرد من أجل علماء البصريين وقد أفرد كتابًا في القدح في كتاب سيبويه والغض منه، أما الكوفيون فإنهم لا يعدون كتاب سيبويه شيئًا!.