تنبيه:
ولا يفوتنا أن ننبه القراء إلى أن أنواع الاختلاف التي بسطناها لا تزال متحققة في اللهجات العامية المعروفة اليوم في مصر والشام والعراق وسائر الأقطار التي يتكلم أهلها الفصيح البلدي أو العربية المطلقة، وقد ذهب بعضهم إلى أن هذا الاختلاف لم يأت عبثًا، بل هو طبيعة الاختلاف بين العرب الأولين الذين استوطنوا البلاد أيام الفتوح فخرج من أصلابهم هؤلاء المتأخرون؛ ومن لم يمت إليهم بنسب كان منهم بسبب من الولاء والمخالطة ونحو ذلك. وعلى هذا يكون ما تصيبه في لهجات العوام مما يوافق لغات العرب ليس إلا نسبًا لفظيا يدل على ما وراءه من النسب التاريخي بين طوائف العوام وقبائل العرب.
نعم إن اللغة ميراث تاريخي، ولكنها كذلك في الجملة، فيقال إن لغة أمة متفرعة تدل على تحقيق النسبة التاريخية بينها وبين أمة اللغة نفسها، ولكن من الخطأ الواضح أن يقال إن نسب المفردات في الكلام يرتبط بنسب الأفراد في المتكلمين؛ فإذا رأيت أهل مصر جميعًا يقولون: مشالله في "ما شاء الله" فلا يدل ذلك على أنهم من بقايا عرب الشَّحر وعمان الذين يحذفون بعض الحروف اللينة، وهي اللخلخانية كما مر في موضعه، وإذا رأيت كثيرين من أهل البحيرة والغربية يقولون: أَحْمَا في "أحمد" وتاكوا "في تأكل". والبَصَا "في البصل"، فذلك لا يدل على أنهم من عرب طيئ الذين يقطعون اللفظ قبل تمامه، وهي القطعة كما بيناه.
لو ذهبنا نعارض كل ما كان من هذا القبيل بالمأثور من لهجات العرب على أن نحقق نسبة هذا الميراث المنطقي إلى قبائله، لتقحمنا خطة من الغيب، ولأوشكنا أن نضع علمًا كله جهل، وإن كان هذا البحث مما ينهج للنظر سبلًا من الكلام ويفتق للذهن أمورًا من الجدل، بيد أنه التاريخ المزور، والشهادة الظنية على حق اليقين.
والصحيح أن الألسنة هي الألسنة في كل زمان، وما جرى عليه العرب في لغتهم جرت عليه العامة في لغتها؛ فهو يتصرفون في المنطق تصرف المتمكن المستقل؛ لأن العامية لا ترجع إلى قاعدة مضبوطة، ولا هي من اللغات المكتوبة، فتقف عند حد محدود؛ ولكنهم يلوون بها ألسنتهم على ما يصرفها من الأسباب الخلقية، ثم ما تقوم عليه من أحوال المجتمع بين موروث ومكتسب؛ ولسنا ننكر ألبتة أن التقليد قد فعل في اللغة العامية ما فعله في العربية قبلها، بل كان أهل الأمصار في صدر الإسلام -وهم أصل العامية- يتكلمون على لغة النازلين فيهم من البدو، كما كان العرب النازلون بقرب السبل ومجامع الأسواق يتكلمون على لغة من يليهم من العامة. واللغة لا تخلق على لسان أحد، بل لا بد من التقليد والمحاكاة؛ ولكنا ننكر نسبة الناطقين إلى قبائل من العرب توافقها في هيآت المنطق، بعد أن تصرف أهل الأمصار في اشتقاق اللغة كما تصرف العرب، وأخذوها بالتقليد والمحاكاة عن كل شفة، وكان لهم في سياستها استقلال أوسع بكثير مما كان للعرب.
ونحن نذكر هنا كلمة واحدة صح نقلها عن العامية أول عهدها في الشام، ثم هي لا تزال دائرة إلى اليوم في العامي والفصيح. وهي لفظة "عليه" فقد نقل صاحب "الأغاني" كلمة من الشعر العامي