حقيقة البيان، فأكثر القائمين عليها، والمضطلعين بها، لا يكتبون ولا ينظمون، فإن فعلوا كان غاية إحسان المحسن منهم أن يكون كصانع التماثيل الذي يصب في قالبه تمثالا سويا متناسب الأعضاء، مستوي الخلق، إلا أنه لا روح فيه ولا جمال له؛ لأنه ينقصهم بعد ذلك كله أمر هو سر البيان ولبه، وهو الذوق النفسي والفطرة السليمة، وأنى لهم ذلك وما دخلت الفلسفة أيا كان نوعها على عمل من أعمال الفطرة إلا أفسدته، وما خالط التكلف عملًا من أعمال الذوق إلا شوَّه وجهه، وذهب بحسنه وروائه.
ولقد قرأت ما شئت من منثور العرب، ومنظومها، في حاضرها وماضيها، قراءة المتثبت المستبصر، فرأيت أن الأحاديث ثلاثة، حديث اللسان، وحديث العقل، وحديث القلب.
فأما حديث اللسان، فهو تلك العبارات المنمقة، والجمل المزخرفة، أو تلك الكلمات الجامدة الجافة التي لا يعني صاحبها منها سوى صورتها اللفظية، فإن كان لغويًا تقعر وتشدق، وتكلف وأغرب، حتى يأتيك بشيء خير ما يصفه به الواصف أنه متن مشوش من متون اللغة لا فصول له ولا أبواب، وإن كان بديعيًا جنس ورصع وقابل ووشَّع وزواج وافتن في الإتيان بالكلمة مهملة كلها أو معجمة كلها، أو راوح بين الإهمال والإعجام