فقال: كل هذه الأشياء بعد الحياة والعقل والعافية، فروع. فإن الإنسان بعقله يصبر على الفقر، وبعقله يجتلب الغنى، وبعافيته يبلغ الغاية ويكتسب السعادة، والعقل في جميع أحواله. فيتصرف بثمرة الراحة مرة، وبالصبر مرة ويريه الحكمة فيما فشا وسر، ويؤديه إلى السعادة في كل ما أقبل وأدبر، لأن العقل متى حل شخصاً أضاءه وأناره، ومتى فارق شخصاً كدره وأباره.
والكلام في العقل مضطرب جداً، خاصة إذا ترنم بتمجيده من وفر الله حظه منه، وصبغ كله أو بعضه به، وغمس ظاهره وباطنه فيه، وبسط سداه ولحمته عليه. ولا بأس مع هذا الاعتراف بشرفه أن أكتب لك في هذا الموضع ما يغذو روحك ويحدث الأريحية في نفسك، ويشحذ ما كل من ذهنك، وينزح ما غار من فهمك، ويفتح تغميض بصرك، ويطرد سنة قلبك، ويؤلف بينك وبين حقك.
اعلم أن العامة وكثيراً من الخاصة، لا يعرفون العقل ولا يحقون حده، ولا يتصرفون في وصفه، ويكتفون في معرفته بأن يقولوا: هو عرض أو جسم أو آلة بها يتميز هذا التمييز، ومن أجلها يتكلف هذا التكليف، أو يكيف هذا التكيف، وربما قال الحاذق منهم: هو مأخوذ من العقال. وسمعت البصري المنبز بجعل يقول: العقل هو مجموع علوم هذه اللفظة. والعبارة عن العقل أكرمك الله مقسومة على قدر ما يريك منه ويلحظ به ويؤكد السبيل إليه، فإما أن يقال إنه موجود ومكشوف، فهو سعة الكلام واقتدار القائل وتقريب المعرف. وسمعت في بعض ما يقال أيضاً في وصفه أنه مطبوع ومصنوع. هذا قريب من الذي تقدم. والذي يقربك من الحق في هذا ويدنيك إلى اليقين ويلبسك جلباب السكون، أن تعلم أن العقل بأسره لا يوجد في شخص إنسي، وإنما يوجد منه قسط بالأكثر والأقل، والأشد والأضعف. والموجود في العامة وأشباه العامة إنما هو قوة متصاعدة عن الطبيعة قليلاً بعد التباسها بها قد فاءت عليها بظل النفس الناطقة، على