المقابسة الثانية والأربعون
في معرفة الله تعالى أضرورية هي أم استدلالية؟
قيل لأبي الخير حدثنا عن معرفة الله تقدس وعلا، ضرورة هي أم استدلال؟ فإن المتكلمين في هذا اختلفوا اختلافاً شديداً، وتنابذوا عليه تنابذاً بعيداً، ونحب أن يحصل لنا جواب فيفسر على حد الاختصار مع البيان؟ فقال: هي ضرورة من ناحية العقل، واستدلال من ناحية الحس، ولما كان كل مطلوب من العلم إما أن يطلب بالعقل في المعقول، أو بالحس في المحسوس، قال: وهذا هو الشاهد والغائب. وساغ أن يظن مرة أن معرفة الله اكتساب واستدلال، لأن الحس يتصفح ويستقوي بموازرة العقل ومظاهرته وتحصيله، وأن يظن تارة أخرى أنها ضرورة. إن العقل السليم من الأفة، البريء من العاهة، يحث على الاعتراف بالله تقدس اسمه، ويحظر على صاحبه بجحده وإنكاره والتشكك فيه، لكن ضرورة لائقة بالعقل، لأن ضرورة العقل ليست كضرورة الحس، وذلك أن ضرورة الحس فيها جذب واختيار، وحمل وإكراه، فأما ضرورة العقل فهي لطيفة جداً لأنه يعظ ويلاطف وينصح ويحقق.
وكان بعض أصحابنا في الوراقين ببغداد يضرب في هذا مثلاً: زعم أن مثال الحس في هذا كامرأة حسناء متبرجة، ذات وقاحة وخلاعة، قد جلست إلى شاب طرير، له شطر جمالها، وعليه مسحة من حسنها، تخدعه بحديثها، وتراوده عن نفسه لنفسها، وتبدي له محاسنها، وتطمعه في تمكينه منها،