وشُغلتُ عنْ فهمِ الحديثِ سوَى ... ما كانَ فيكِ وحبُّكمْ شُغلِي
وأديمُ نحوَ مُحدِّثي نظَرِي ... أنْ قدْ فهمتُ وعندكمْ عقلِي
وقال آخر:
مَنْ كانَ لمْ يدرِ ما حبٌّ وصفتُ لهُ ... إنْ كانَ في غفلةٍ أوْ كانَ لمْ يجدِ
الحبُّ أوَّلهُ روعٌ وآخرهُ ... مثلُ الحرارةِ بينَ القلبِ والكبدِ
وقال الحسين بن مطير الأسدي وهو من جيد ما قيل في معناه:
قضَى اللهُ يا أسماءُ أنْ لستُ زائلاً ... أُحبُّكِ حتَّى يغمضَ العينَ مُغمضُ
فحبُّكِ بلوَى غيرَ أنْ لا يسرُّني ... وإنْ كانَ بلوَى أنَّني لكِ مُبغضُ
إذا ما صرفتُ القلبَ في حبِّ غيرِها ... إذاً حبُّها مِنْ دونهِ يتعرَّضُ
فيا ليتَني أقرضتُ جَلداً صبابَتي ... وأقرَضَني صبراً علَى الشَّوقِ مُقرضُ
أما قوله فحبُّك بلوَى فكلام قبيح المعنى وذلك أنَّه كان صادقاً في هواها مختاراً لها على ما سواها فقد أتى على نفسه إذ جعل اختياره مضرّاً بقلبه وإن كان لم يدخل في الهوَى مختاراً وإنَّما وقع به اضطراراً فقد أخطأ إذ سمَّى ما هو موجودٌ في طبعه مفارقٌ لنفسه باسم البلوى الَّتي تعرض له وتنصرف عنه وأمَّا إخباره بأنَّه لا يسرُّ بأن يكون مبغضاً لها فكلامٌ لو سكت عنه كان أولى أو أن يكفّه أنَّه مُبتلًى عند نفسه بهواها حتَّى يريد مع ذلك أن يكون مبغضاً مائلاً إلى سواها غير أنِّي أرجع إلى من ملكه الإشفاق وغلب على قلبه الاشتياق عذراً بأن يُظهر ما يضمر سواه ويتمنَّى لنفسه غير ما يهواه ألم يسمع الَّذي يقول:
مِنْ حبِّها أتمنَّى أنْ يُلاقينِي ... مِنْ نحوِ بلدتِها ناعٍ فينْعَاها
كيْما أقولَ فراقٌ لا التقاءَ لهُ ... وتُضمرُ النَّفسُ يأساً ثمَّ تسلاها
وهذا لعمري سرفٌ شديد وطريق الاعتذار لقائله بعيد وأقرب منه قول أبي الوليد بن عبيد الطائي:
مُقيمٌ بأكنافِ المصلَّى تصيدُني ... لأهلِ المصلَّى ظبيةٌ لا أصيدُها
أُريدُ لنفسِي غيرَها حينَ لا أرَى ... مُقاربةً منها ونفسي تريدُها
وهذا الكلام أيضاً حسن الظَّاهر قبيح الباطن وذلك أنَّه يعبِّر عن صاحبته أنَّه إنَّما يريدها ما دامت تواصله فإذا هجرته انصرف عنها قلبه إلاَّ أنَّه وإن كان مقصِّراً في هذا البيت فما قصَّر في قوله:
يهواكَ لا أنَّ الغرامَ أطاعهُ ... حتماً ولا أنَّ السُّلوَّ عصاهُ
مُتخيِّرٌ ألفاكَ خيرةَ نفسهِ ... ممَّن نآهُ الودُّ أوْ أدناهُ
وهذا ضد قول أبي علي البصير:
لوْ تخيَّرتُ ما عشقتُ ولوْ مُلِّ ... كتُ أمرِي عرفتُ وجهَ الصَّوابِ
وأقبح من هذا القول الَّذي يقول:
إنَّ الَّذي بعذابِي ظلَّ مُفتخراً ... هلْ كنتَ إلاَّ مليكاً جارَ إذ قدرَا
لولا الهوَى لتَحَاربْنا علَى قدرٍ ... وإن أُفقْ يوماً ما فسوفَ ترَى
هذا يتوعد محبوبه بالعقاب وهو أسير في يده يجري عليه حكمه وينفذ فيه فكيف لو قد ملك نفسه وقدر على الإنصاف من خصمه هذه حالٌ لا يُخبر بها عن نفسه إلاَّ من قد غُلب على عقله أو تحيَّر في أمره وقد قال جميل في قريبٍ من هذا المعنى قولاً مليحاً وإن لم يكن معناه عندنا صحيحاً وهو:
فيا ربِّ حبَّبْني إليها وأعطِنِي المو ... دَّةَ منها أنتَ تُعطي وتمنعُ
وإلاّ فصبِّرني وإنْ كنتُ كارهاً ... فإنِّي بها يا ذا المعارجِ مولعُ
وللمجنون ما هو أقبح منه:
فيا ربِّ سوِّ الحبَّ بيني وبينها ... كَفافاً فلا يرجحْ لليلَى ولا ليَا
وإلاّ فبغِّضْها إليَّ وأهلَها ... تكنْ نعمةً ذا العرشِ أهديتَها ليَا
وأنشدني أبو العباس محمد بن يزيد النحوي ليزيد بن الطثرية في ضد هذا المعنى:
يقولونَ صبراً يا زيدُ إذا نأتْ ... ويا ربِّ لا ترزقْ علَى حبِّها صبرَا
فهذا يختار لنفسه البلاء ضنّاً بمحلِّها من الهوَى ولعمري إنَّ هذه لحالٌ وكيدةٌ وإنَّها لو فارقته حتَّى يرى نفسه بعين الحريَّة من ملكها لانتقل عن رأيه وندم على وفائه وقد حدَّثتني مريم الأسدية قالت سمعت امرأة عقيليَّة تقول وهي على بعير لها تسير:
سُقينا سُلوةً فَسَلا كِلانا ... أراكَ اللهُ نعمةَ مَنْ سقانا