وقال امرؤ القيس:
تأوَّبني دائِي القديمُ فغلَّسَا ... أُحاذرُ أنْ يزدادَني فأُنكَّسا
ولمْ يرمِ الدَّارَ الكئيبُ فشعشعاً ... كأنِّي أُنادِي أوْ أُكلِّمُ أخرسا
فلوْ أنَّ الدَّارَ فيها كعهدهمْ ... وجدتُ مَقيلاً فيهمِ ومعرَّسا
فلا تُنكريني إنَّني أنا جاركمْ ... لياليَ حلَّ الحيُّ غوْلا فألعَسا
وقال آخر:
وقد كنتُ قبلَ اليومِ أحسبُ أنَّني ... ذلولٌ لأيَّامِ الفراقِ أريبُ
فأشرفتُ يوماً للوداعِ فشاقَنِي ... وذو الشَّوقِ في أعلَى اليفاعِ طروبُ
فما برحتْ نفسي تساقطُ أنفساً ... وتجمدُ روحي مرَّةً وتذوبُ
وقال بشار:
إرجعْ إلى سكنٍ تُعزُّ بهِ ... أفِدَ الزَّمانُ وأنتَ منفردُ
نرجو غداً وغدٌ كحاملةٍ ... في الحيِّ لا يدرونَ ما تلدُ
وقال أبو تمام:
ألبينُ جرَّعني نقيعَ الحنظلِ ... والبينُ أثكلني وإنْ لم أُثكلِ
ما حسرَتي أنْ كدتُ أتلفُ إنَّما ... حسراتُ نفسِي أنَّني لم أفعلِ
كم منزلٍ في الأرضِ يألفهُ الفتَى ... وحنينهُ أبداً لأوَّلِ منزلِ
نقِّلْ فؤادكَ حيثُ شئتَ منَ الهوَى ... ما الحبُّ إلاَّ للحبيبِ الأوَّلِ
وقال زرعة الجعدي:
إذا ما التَقَيْنا بعدَ شحطٍ منَ النَّوى ... تعرَّضَ بخلٌ بينَنا مُتتابعُ
أهابُ وأستحيي فلستُ بقائلٍ ... صِليني ولا معروفُها ليَ نافعُ
رمتْ عينَ مَنْ تهوَى بعينِ خليَّةٍ ... وأُخرى إلينا بالمودَّةِ طائعُ
إذا الموتُ نسَّى حبَّ ليلَى فإنَّه ... إذا راجعتْ نفسي الحياةُ لراجعُ
وقال الوليد بن عبيد الطائي:
أحببْ إليَّ بطيفِ سُعدى الآتِي ... وطروقهِ في أعجبِ الأوقاتِ
أنَّى اهتديتَ لمُحْرمينَ تصوَّبوا ... لسفوحِ مكَّةَ مِنْ رُبى عرفاتِ
ذكَّرتنا عهدَ الشَّآمِ وعيشَنا ... بينَ القنانِ السُّودِ فالهضباتِ
إذْ أنتَ شكلُ موافقٍ ومخالفٍ ... والدَّهرُ فيكَ ممانعٌ ومؤاتِ
أبني عبيدٍ شدَّ ما احترقتْ لكمْ ... كبدِي وفاضتْ فيكمُ عبَراتِي
ألقَى مكارمكمْ شجًى لي بعدكمْ ... وأرَى سوابقَ دمعكمْ حسَراتِي
لمْ تحدثِ الأيَّامُ لي بدلاً بكمْ ... أيْهاتِ مِنْ بدلٍ بكمْ أيْهاتِ
وقال آخر:
إذا قيلَ أنَّ النَّأيَ يُسليكَ ذكرَها ... ألمَّ خيالٌ مِنْ أُميمةَ يُسعفُ
فمنْ لامَني في أنْ أهيمَ بذكرِها ... تكلَّفَ مِنْ وجدٍ بها ما أُكلَّفُ
فإذا كان طيف الخيال يردُّ الهوَى على من قد سلاه ويذكر عهد الصبا من قد تناساه فما ظنُّك بحضور الفراق والهجران ومقاساة الاستبدال بالإخوان هذه أحوالٌ لا يقاومها الجفاء ولا يعارضها العزاء غير أنَّ من كان سلوُّه سلوُّ استغناءٍ لم يكترث لورود شيءٍ من هذه الأشياء.
الباب الثالث والعشرون مَنْ غلبهُ هواهُ علَى الصَّبر مَنْ غلبهُ هواهُ علَى الصَّبر صبرَ لمنْ يهواهُ علَى الغدرِ
هذه الحال ليست جارية على الترتيب فيقع لصاحبها عذر أو تأنيب لأنها حال قد تجاوزت حدَّ العشق برضى المحب بكل فعل المحبوب وهو صاح عنها فأوقع له اختياره الرضى بها والمحبة معها ثمَّ تبعتها أشياء من غير جنسها إلاَّ أنَّها ليست هتكاً لحجاب المودة فاجتمعت معها وهذه حال وقعت بالمحبوب بعد أن وقع الرضى من محبة بخلافها ثمَّ وقع السخط منه بحدوثها والتباعد من صاحبها ثمَّ عرضت الحيرة الَّتي لا تمييز معها فردَّته بالصُّغر إلى ما لا يرضاه وصيَّرته على ما كان قبل وقوعه يخشاه وبين الرضى الاختياري وبين الرضى الاضطراري بَوْنٌ بعيد.
قال ذو الرمة:
أجِدَّكَ قد ودَّعتَ ميَّةَ إذْ نأتْ ... فولَّى بقايا الحبِّ إلاَّ أمينُها
وإنِّي لطاوٍ سرَّها موضعَ الحشا ... كُمونَ الثَّرى في عهدةٍ يستبينُها
لئنْ زُوِّجتْ ميٌّ خُنيساً لطالَ ما ... بغَى منذرٍ ميّاً خليلاً يهينُها
تزينُكَ إنْ جرَّدتها من ثيابِها ... وأنتَ إذا جرِّدتَ يوماً تشينُها
ولمَّا أتاني أنَّ ميّاً تزوَّجتْ ... خُنيساً بكى سهلُ المِعَى وحزونُها