أباحَ حمَى الميثاقِ واللهُ بينَنا ... فلمْ يُبقِ للميثاقِ قبلاً ولا بعدا
فليتكَ لا تُجزَى بما أنتَ أهلهُ ... وإن كنتَ قدْ أشرَقْتني بدمي حِقدا
عدمتكَ مِنْ قلبٌ أقامَ لغادرٍ ... علَى العهدِ حتَّى كادَ يقتلُني وجْدا
وقال أيضاً:
تعزَّوْا بيأسٍ عنْ هوايَ فإنَّني ... إذا انصرفتْ نفسِي فهيهاتَ مِنْ ردِّي
أبَى القلبُ إلاَّ نبوةً عن جميعكمْ ... كنبوتكمْ عنِّي ففي السُّحقِ والبُعدِ
إذا خنتُكمْ بالغيبِ عهدِي فما لكمْ ... تدلُّونَ إدلالَ المقيمِ علَى العهدِ
فكمْ مِنْ قتيلٍ كانَ لي قبلُ فيكمْ ... فها أنذا فيكمْ نذيرٌ لمنْ بعدِي
فوا أسفاً مِنْ صبوةٍ ضاعَ شكرُها ... مضتْ سلفاً في غير أجرٍ ولا حمدِ
ولبعض أهل هذا العصر:
قصرتُ عليكَ النَّفسَ حتَّى توهَّمتْ ... بلِ استيقنتْ أنْ ليسَ غيركَ مطلبا
فرامتْ بديلاً منكَ لمَّا جفوتَها ... فحارتْ كأنْ لم يخلقِ اللهُ منجِبا
فإنْ تتفكَّرْ في انصِرافي خائباً ... وغدركَ تعلمْ أيُّنا عادَ أخيِبا
كسبتَ ملاماً واكتسبتُ بصيرةً ... بأمركَ فانظرْ أيُّنا عادَ مُكسبا
سأشكرُ ذنبَ الدَّهرِ فيكَ ولم أكنْ ... علَى غِيَرِ الأيَّامِ أشكرُ مُذنبا
وله أيضاً:
ما زلتُ أكذبُ فيكَ إرجافَ العدَى ... والغدرُ في عطفيكَ ليسَ بخافِ
حتَّى حسرتَ لناظرِي عنْ سوءةٍ ... أغنتْ أعاديكمْ عنِ الإرجافِ
فظللتُ حين خبرتُكمْ مُتعرِّضاً ... عنكمْ بأوسطِ سورةِ الأعرافِ
فامضوا عليكمْ لعنةُ اللهِ ارتَعوا ... في صحبةِ الأوغادِ والأجلافِ
أمَّا سلوُّ المحبّ عمَّن غدر به فغير معيب عليه إذ ليس ذلك مفوَّضاً إليه وإنَّما يوجبه نفور النَّفس عمَّن خالف شكلها كما توجب المحبَّة سكون النَّفس إلى شيء شاكل طبيعتها وأمَّا تشنيعه بالغدر على محبوبه فإنَّ ذلك لعمري قبيحٌ وما على من سلا عن إلفه أن يضمر ذلك في نفسه ولا يقصُّ على غيره ما ظهر له من سوء فعله فإن ظهر منه على ترك المواصلة عارض في ذلك بضربٍ من المجاملة.
كما فعل الَّذي يقول:
وقائلٍ كيفَ تهاجرْتُما ... فقلتُ قولاً فيهِ إنصافُ
لمْ يكُ مِنْ شكلِي فناكرتُهُ ... والنَّاسُ أشكالٌ وأُلاّفُ
وكما قال الآخر:
أرى عرَضَ الدُّنيا وكلُّ مصيبةٍ ... تهونُ إذا عنكِ الحوادثُ زلَّتِ
فإنْ سألَ الواشونَ كيفَ هجرْتَها ... فقلْ نفسُ حرٍّ سُلِّيتْ فتسلَّتِ
الباب الحادي والعشرون
مَنْ راعهُ الفراقُ ملكهُ الاشتياقُ
التَّرويع بالفراق هو السَّهم الَّذي لا يعدل عن مقاتل العشَّاق من رمى به من المحبوبين أصاب ومن دُعي به من المحبِّين أجاب وربَّما ولعت نفوس العشَّاق محاذرة وقوع الفراق عن غير سبب يوجبه إظهار الإشفاق وتلك حالٌ لا يتهيَّأ معها وصالٌ.
وفي نحو ذلك يقول الحسين بن الضحاك:
أباحَنِي قربهُ ووسَّدنِي ... يُمنى يديهِ وباتَ مُلتَزِمِي
فقلتُ لمَّا استخفَّنِي فرَحي ... أشوبُ عينَ اليقينِ بالتُّهمِ
أصبحَ مُستثبتاً نظرِي ... إخالُني نائماً ولمْ أنمِ
وللبحتري في مثله:
حبيبٌ سرَى في خيفةٍ وعلَى ذُعرِ ... يجوبُ الدُّجى حتَّى التقينا علَى قدرِ
وشككتُ فيهِ مِنْ سرورٍ خلتُهُ ... خيالاً أتى في النَّومِ مِنْ طيفهِ يسرِي
وعلى أنَّ من العشَّاق من يتحاقر روعات الفراق وذلك إمَّا لما ناله من مضاضة هجرٍ أو مواقعة غررٍ وإمَّا لطغيان النَّفس ونشاطها وانبساطها في محابِّها واستظهارها بغرَّة الجهل على أحبابها ولمن كان بهذه الخلل باب مفردٌ ووصفٌ مجرَّدٌ.
وقال جميل بن معمر:
كفَى حزَناً للمرءِ ما عاشَ أنَّه ... ببينِ حبيبٍ لا يزالُ يروَّعُ
فوا حزَنا لو ينفعُ الحُزنُ أهلهُ ... ووا جزعَا لو كانَ للنَّفسِ مجزعُ
فأيُّ فؤادٍ لا يذوبُ بما أرَى ... وأيُّ عيونٍ لا تجودُ فتدمعُ
وأنشد لأحمد بن أبي طاهر:
أذاهبةٌ نفسِي شعاعاً فميِّتٌ ... ومنصدعٌ قبلَ انصداعِ النَّوى قلبِي