سلامٌ علَى أمِّ الوليدِ وذكرِها ... وعهدٍ لها لمْ يُنسَ وهوَ قديمُ
الباب العشرون إذا ظهرَ الغدرُ سهُل الهجرُ
العلة في سهولة الهجر عند ظهور الغدر ضربٌ من المكروه وكلُّ مكروهٍ فبعد النَّفس عنه خيرٌ لها من القرب منه وعلى أنَّ نفس المحبِّ إذا استيقنت بالغدر لم ترضَ بمقاومة الهجر لأنَّ في الهجر ضربٌ من التَّأديب وضربٌ من الانتقام والنَّفس المرَّة لا تعبأ بمن غدر بها ولا تستصلحه بمعاتبةٍ ولا ترصده بمعاقبةٍ بل تخلِّي فكرها عن ذكره وتصون خواطرها عن الخوض في أمره.
وفي هذا النحو يقول بعض أهل هذا العصر:
يا قلبُ قدْ خانَ مَنْ كلفتَ بهِ ... فخلِّ عنكَ البكاءَ في أثرهْ
شغلكَ بالفكرِ في تغيُّرهِ ... أعظمُ ممَّا لقيتَ مِنْ غِيَرهْ
فارحلْ فمن لا يحلُّ موردهُ ... يُفضِ بهِ صفوهُ إلى كدرهْ
وارجعْ إلى اللهِ في الأُمورِ فلنْ ... تقدرَ أن تستجيرَ مِنْ قدرهْ
ومن النَّاس مَن تضعف قواه عن هذه الحال فلا يسأل عمَّا يصير إليهِ من النَّكال وكلُّ ذلك على حسب التَّوفيق والخذلان نسأل الله خير عواقب الأمور ونستكفيه كلَّ مهمٍّ ومحذور.
وقال امرؤ القيس بن حجر:
إذا قلتُ هذا صاحبٌ قد رضيتهُ ... وقرَّتْ بهِ العينانِ بدَّلتُ أخرا
وذلك أنِّي لمْ أثقْ بمصاحبٍ ... منَ النَّاسِ إلاَّ خانَني وتغيَّرا
وقال الأحوص:
أقولُ لمَّا التقينا وهيَ صادفةٌ ... عنِّي ليُهنكِ مَنْ تُدنينهُ دُونِي
إنِّي سأمنحكِ الهجرانَ مُعتزماً ... مِنْ غيرِ بغضٍ لعلَّ الهجرَ يُسلينِي
ومُثنياً رجعَ أيَّامٍ لنا سلفتْ ... سقياً ورعياً لذاكَ الدِّينِ مِنْ دينِ
وبلغني أن نصيباً أتى إلى صاحبته فدفع الباب ليدخل إليها فرأى عندها فتًى تحدِّثه فقالت له: ادخل يا أبا محجنٍ فأنشأ يقول:
أراكِ طَموحَ العينِ مذَّاقةَ الهوَى ... لكلِّ خليلٍ منكِ وصلٌ مُطرَّفُ
متى تجمَعِي رِدفينِ لا أكُ منهما ... فهُبِّي بفردٍ لستُ ممَّنْ يُردَّفُ
ثمَّ ترك الباب ولن يسدَّه وانصرف.
وقال أبو نواس:
ومُظهرةٍ لخلقِ اللهِ عشقاً ... وتُلقَى بالمحبَّةِ والسَّلامِ
أتيتُ فؤادَها أشكُو إليهِ ... فلم أخلصْ إليهِ منَ الزِّحامِ
فيا مَنْ ليسَ يُقنعهُ خليلٌ ... ولا ألفا خليلٍ كلَّ عامِ
أراكِ بقيَّةً مِنْ قومِ موسى ... فهمْ لا يصبرونَ علَى طعامِ
وقال العباس بن الأحنف:
كتبتْ نلومُ وتستريبُ زيارَتِي ... وتقولُ لستَ لنا كعهدِ العاهدِ
فأجبتُها ومدامعِي منهلَّةٌ ... تجرِي علَى الخدَّينِ غيرَ جوامدِ
يا عتبُ لمْ أهجركمُ لملالةٍ ... حدثتْ ولا لمقالِ واشٍ حاسدِ
لكنَّني جرَّبتكمُ فوجدتكمُ ... لا تصبرونَ علَى طعامٍ واحدِ
وقال القعقاع الأسدي:
أصارمةٌ أمْ لا حِبَالكَ زينبُ ... وما بينَ صرمِ الحبلِ والوصلِ مذهبُ
بلَى إنَّ أرْماقاً ضعافاً هي الَّتي ... يُغرُّ بها النِّكسُ الدَّنيءُ ويُكذبُ
وما أنا بالنِّكسِ الدَّنيءِ ولا أُرى ... إذا رامَ صرمِي ذو المودَّةِ أغضبُ
ولكنَّهُ ما دامَ دمتُ وإنْ يكنْ ... لهُ مذهبٌ عنِّي يكنْ لِي مذهبُ
سواهُ وخيرُ الودِّ ودٌّ تطوَّعتْ ... بهِ النَّفسُ لا ودٌّ أتَى وهوَ متعبُ
وقال بعض الأعراب:
أبِينِي أفي يُمنى يديكِ جعلتِنِي ... فأفرحُ أمْ صيَّرتِني في شمالكِ
فإنْ كنتُ في اليُمنى فيا ليتَ عيشَتي ... وإنْ كنتُ في اليسرى فضلَّ ضلالكِ
إذا لمْ تنالينَا وربِّ محمَّدٍ ... ولمْ ترفَعِي رأساً بنا لمْ نُبالكِ
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
أنا لا أبدَا بغدرٍ أبداً ... فإذا ما غدرتْ لمْ أتَّركْ
أتَراني أقعدُ اللَّيلَ لها ... ساهراً أطلبُ وصلاً قد هلكْ
وهيَ فيما تشتَهي لاهيةٌ ... متُّ إنْ دارَ بهذينِ الفلكْ
وقال آخر:
ومِنْ شيَمي أنِّي إذا المرءُ ملَّني ... وأظهرَ إعراضاً ومالَ إلى الهجرِ
أطلتُ لهُ فيما يحبُّ عنانهُ ... وتاركتهُ في حسنِ يسرٍ وفي سترِ