وزعم جالينوس أنَّ المحبة قد تقع من العاقلين من باب تشاكلهما في العقل ولا تقع بين الأحمقين من باب تشاكلهما في الحمق لأن العقل يجري على ترتيب فيجوز أن يُتفق فيه على طريق واحد والحمق لا يجري على ترتيب فلا يجوز أن يقع به اتفاق بين اثنين وقال بعض المتطببتن إنَّ العشق طمع يتولد في القلب وتجتمع إليه مواد من الحرص مكلما قوي ازداد صاحبه في الاهتياج واللجاج وشدَّة القلق وكثرة الشَّهوة وعند ذلك يكون احتراق الدم واستحالته إلى السوداء والتهاب الصفراء وانقلابها إلى السوداء ومن طغيان السوداء فساد الفكر ومع فساد الفكر تكون العدامة ونقصان العقل ورجاء ما لا يكون وتمنِّي ما لا يتمُّ حتَّى يؤدي ذلك إلى الجنون فحينئذ ربَّما قتل العاشق نفسه وربَّما مات غمّاً وربَّما نظر إلى معشوقه فيموت فرحاً أو أسفاً وربَّما شهق شهقة فتختفي فيها روحه أربعاً وعشرين ساعة فيظنون أنَّه قد مات فيقبرونه وهو حيٌّ وربَّما تنفس الصعداء فتختنق نفسه في تامور قلبه وينضمُّ عليها القلب فلا ينفرج حتَّى يموت وربَّما ارتاح وتشوَّق للنَّظر أو رأى من يحبُّ فجأة فتخرج نفسه فجأة دفعة واحدة وأنت ترى العاشق إذا سمع بذكر من يحبُّ كيف يهرب ويستحيل لونه وإن كان الأمر يجري على ما ذكر فإنَّ زوال المكروه عمَّن هذه حاله لا سبيل إليه بتدبير الآدميين ولا شفاء له إلاَّ بلطف يقع له من رب العالمين وذلك أن المكروه العارض من سبب قائم منفرد بنفسه يتهيَّأ التَّلطُّف في إزالته بإزالة سببه فإذا وقع الشَّيئان وكل واحد منهما علَّة لصاحبه لم يكن إلى زوال واحدة منهما سبيل فإذا كانت السوداء سبباً لاتصال الفكر وكان اتصال الفكر سبباً لاحتراق الدم والصفراء وقلبها إلى تقوية السوداء كلما قويت قوَّت الفكر والفكر كلما قوي قوَّى السوداء وهذا هو الداء الَّذي يعجز عن معالجته الأطبَّاء وقد زعم بعض المتصوفين أن الله جل ثناؤه إنَّما امتحن النَّاس بالهوى ليأخذوا أنفسهم بطاعة من يهوونه وليشق عليهم سخطه ويسرَّهم رضاؤه فيستدلّ بذلك على قدر طاعة الله عزَّ وجلّ إذ كان لا مثل له ولا نظير وهو خالقهم غير محتاج إليهم ورازقهم مبتدئاً غير ممتنٍّ عليهم فإن أوجبوا على أنفسهم طاعة من سواه كان هو تعالى أحرى بأن يتَّبع رضاه والكلام في اعتبار ما حكيناه والإخبار عن جميعه بما يرضاه يكثر وربَّما استغني بالحكايات عن التَّصريح بالاختبارات ونحن إن شاء الله نذكر بعقب هذا الباب مبلغ الهوَى من قلوب ذوي الألباب ونصف مراتبه وتصرفه وازدياده وتمكنَّه ونخبَّر باقتداره على المقتدرين واستظهاره على المستظهرين وتلاعبه بقلوب المتفلسفين وتمالكه على خواطر المستسلمين. الباب الثاني
العقل عند الهوَى أسيرٌ والشَّوق عليهما أميرٌ
قال جالينوس العشق من فعل النفس وهي كامنة في الدماغ والقلب والكبد وفي الدماغ ثلاثة مساكن التَّخييل وهو في مقدم الرأس والفكر وهو في وسطه والذِّكر وهو في مؤخره وليس يكمل لأحدٍ اسم عاشق إلاَّ حتَّى إذا فارق من يعشقه لم يخلُ من تخييله وفكره وذكره وقلبه وكبده فيمتنع عن الطعام والشراب باشتغال الكبد ومن النوم باشتغال الدماغ والتَّخييل والذِّكر له والفكر فيه فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به فمتى لم يشتغل به وقت الفراق لم يكن عاشقاً فإذا لقيه خلت هذه المساكن ولعمري لقد أحسن فيما وصف واحتجَّ لما قال فانتصف غير أَنه ذكر حال العشق وحده وترك ذكر أحوال ما قبله وأحوال ما بعده وذلك أنَّ الأحوال الَّتي تتولد عن السماع والنظر مختلفة في باب العظم والصِّغر ولها مراتب فأول ما يتولد عن النظر والسماع الاستحسان ثمَّ يقوى فيصير مودَّة والمودَّة سبب الإرادة فمن ودَّ إنساناً ودَّ أن يكون له خلاًّ ومن ودَّ غرضاً ودَّ أن يكون له مُلكاً ثمَّ تقوى المودَّة فتصير محبَّة والمحبَّة سبباً للطاعة.
وفي ذلك يقول محمد الوراق:
تعصِي الإلهَ وأنتَ تُظهرُ حبَّهُ ... هذا محالٌ في القياسِ بديعُ
لو كانَ حبُّكَ صادقاً لأَطعتَهُ ... إنَّ المحبَّ لمنْ أحبَّ مُطيعُ
ثمَّ تقوى المحبَّة فتصير خُلَّة والخلَّة بين الآدميين أن تكون محبَّة أحدهما قد تمكَّنت من صاحبه حتَّى أسقطت السرائر بينه وبينه فصار متخلِّلاً لسرائره ومطَّلعاً على ضمائره.