ولمْ يكنْ باختيارٍ لي فأتركهُ ... ولا اضطرارٍ أتاهُ القلبُ مَقهورا
لكنَّهُ مِنْ أمورِ اللهِ ممتنعٌ ... في الوصفِ قدَّرهُ الرَّحمانُ تقديرَا
لنْ يُضبطَ العقلَ إلاَّ ما يدبِّرُهُ ... ولنْ ترَى في الهوَى بالعقلِ تدبيرَا
كنْ مُحسناً أوْ مُسيئاً وابقَ لي أبداً ... تكنْ لديَّ علَى الحالينِ مشكورَا
الباب الثالث عشر
مَنْ حُجبَ منَ الأحبابِ تذلَّل للحجَّابِ
أصل الحجاب يكون من جهتين إمَّا أن يقع من المحبوب اختياراً وإمَّا أن يوقعه غيره به اضطراراً فأمَّا الاضطرار فقسم واحد وهو صون المحبوب عن المحجوب وأما الاختيار فينقسم على ضروب فربَّما كان امتحاناً للمحبِّ من المحبوب وربَّما كان خوفاً عليه من الرَّقيب وربَّما كان استدعاءً للزيادة في الحال وربَّما كان إشفاقاً على النَّفس من العذَّال وتصوُّناً عن قبيح المقال وربَّما كان على جهة الضَّجر والملال وهذا هو شرُّ الأحوال وفي كل ذلك قد قالت الشُّعراء ونحن إن شاء الله نذكر من ذلك بعض ما يتهيَّأ على حسب ما يحتمله العدد الَّذي شرطناه.
وأنشدني أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر:
حجابٌ فإنْ تبدُو فللدَّمعِ جولةٌ ... يكونُ لهُ مِنْ دونِ رؤيَتِها سِترا
فإنْ غاضَ دمعُ العينِ أقبلَ كاشحٌ ... يردُّ جفونَ العينِ قدْ مُلئتْ ذُعرا
ومَنْ يشترِي منِّي حياتِي بمِيتَةٍ ... أبعهُ حياةً يشترِي بعدَها قبرَا
ومَنْ يشترِي عَيْني بعينٍ صحيحةٍ ... أزدهُ علَى عَيْنيَّ قلباً أبى الصَّبرا
وقال عبد الله بن طاهر:
إنْ يمنَعُوني ممرِّي نحوَ بابكمُ ... فسوفَ أنظرُ مِنْ بُعدٍ إلى الدَّارِ
لا يقدِرونَ علَى منْعِي وإنْ جهدوا ... إذا مررتُ وتسليمِي بإضمارِ
ما ضرَّ جيرانكمْ واللهُ يكلأُهمْ ... لولا شقائِي إقبالِي وإدْبارِي
وقال قيس بن ذريح:
فإنْ يحجبُوها أو يحلْ دونَ وصلِها ... مقالةُ واشٍ أوْ وعيدُ أميرِ
فلنْ يحجبُوا عينيَّ مِنْ دائمِ البُكا ... ولنْ يُذهبُوا ما قدْ أجنَّ ضميرِي
وقال بعض الأعراب:
فإنْ يمنعُوا ليلَى وحسنَ حديثِها ... فلنْ يمنعُوا منِّي البُكا والقوافِيا
فهلاَّ منعتمْ إذْ منعتمْ كلامَها ... خيالاً يُوافينا علَى النَّأيِ هادِيا
وقال آخر:
لِي إلى الرِّيحِ حاجةٌ إنْ قضتْها ... كنتُ للرِّيحِ ما حَييتُ غُلاما
حجبُوها عنِ الرِّياحِ لأنِّي ... قلتُ للرِّيحِ بلِّغيها السَّلاما
وقال البحتري:
ويكفِي الفتَى مِنْ نُصحهِ ووفائهِ ... تمنِّيهِ أنْ يُردَى ويسلمَ صاحبُهْ
فلا تحسَبا ترْكِي الزِّيارةَ جفوةً ... ولا سوءَ جاذَبَتْني جواذبُهْ
ومَنْ لِي بإذنٍ حينَ أعدُو إليكُما ... ودونكُما البرجُ المطلُّ وحاجبُهْ
وقال آخر:
خليليَّ ليسَ الهجرُ أنْ تشحطَ النَّوى ... بإلفينِ دهراً ثمَّ يلتقيانِ
ولكنَّما الهِجرانَ أنْ تجمعَ النَّوى ... وأُحصرَ عمَّنْ قد أرَى ويَرانِي
وقال البحتري:
فكمْ جئتُ طوعَ الشَّوقِ مِنْ بعدِ غايةٍ ... إلى غيرِ مشتاقٍ وما ردَّنِي بشرُ
وما بالهُ يأْبَى دخولِي وقدْ أرَى ... خُروجِيَ مِنْ أبوابهِ ويدِي صفرُ
وقال أيضاً:
إذا أتيتكَ إجلالاً وتكرمةً ... رجعتُ أحملُ برّاً غيرَ مقبولِ
فإنْ أردْتكَ عرَّضتُ الرَّسولَ لِمَا ... يُخشَى منَ الرَّدِّ واستأذنتُ مِنْ ميلِ
وقال أبو تمام الطائي:
صبراً علَى المطلِ ما لمْ يتلهُ الكذبُ ... فللخطوبِ إذا سامحتُها عقبُ
ليسَ الحجابُ بمقصٍ عنكَ لي أملاً ... إنَّ السَّماءَ تُرجَّى حينَ تحتجبُ
وقال ابن أبي طاهر:
حُجبتُ وقدْ كنتُ لا أُحجبُ ... وأُبعدتُ عنكَ فما أقربُ
وما ليَ ذنبٌ سوَى أنَّني ... إذا أُغضبتُ لا أغضبُ
وأنْ ليسَ دونكَ لي مطلبٌ ... ولا دونَ بابكَ لي مهربُ
فليتَكَ تبقَى سليمَ المحلّ ... وتأذنُ إنْ شئتَ أوْ تَحجبُ
وقال العرجي:
لقدْ أرسلتْ ليلَى رسولاً بأنْ أقمْ ... ولا تقرَبَنَّا فالتَّجنُّبُ أمثلُ