رضينا من مخارق وابن خير ... بصوت الأثل إذْ متعَ النهارُ
تزعزعه الشّمال وقد توافى ... علَى أنفاسها قطر صغارُ
غداة دُجُنّةٍ للغيث فيها ... خلال الرَّوض حجٌّ واعتمارُ
كأنَّ الرِّيح والمطر المناجي ... خواطرها عتابٌ واعتذارُ
الباب الثاني والثمانون
ذكر آداب المجالسات وحسن المنادات
حدَّثنا العباس بن أحمد الدوري قال: حدَّثنا يحيى بن معين قال: حدَّثنا حجاج بن محمد الأعور قال: حدَّثنا عبد الرحمن بن أبي زياد عن هشام بن عروة قال: رأيت ربيعة بن عباد وهو يحدث أبي، وأبي يسأله قال: إن ابن عفان رضي الله عنه كان أغزانا في غزوة، فمررنا فيها على معاوية، وقد كان وجد علينا في شيء بلغه من أمرنا في غزاتنا تلك، فدخلنا إليه، فجعلنا نعتذر إليه، ونكذِّب ما بلغه، وجعل يوافقنا على بعض ذلك، ويؤنبنا فيه، ثمَّ قام رجل فقال: أصلح الله الأمير، إنا مكذوبٌ علينا، فلينظر الأمير في أمرنا، فإن كنَّا أبرياء غفر لنا ذلك، وإن كان لنا ذنب عفاه عنَّا. فقال معاوية: فكذاك إذاً، ثمَّ قال الرَّجُل: إن كنتُ لم أذنب فلا تظلمنَّني، وإن كنت ذا ذنبٍ فسوف أتوب، ثمَّ أقبل في وجوه القوم حيث جلس معاوية فقال:
ولا تنس قربان الأمير شفاعةً ... لكلِّ امرئ فيما أفادَ نصيبُ
قال: فقبل منَّا معاوية، وصنع إلينا معروفاً.
ومن جيد ما قيل في حسن المساعدة قول دريد بن الصمة وقد أغار وأخوه في نفر من قومهم على نِعمٍ لقيس، فاستاقوها، فلمَّا كانوا في بعض الطريق، ترك عبد الله بن الصمة فقال له أخوه دريد: ليس هذا منزلنا، إن قيساً غير نائمة عن أموالها. فقال: والله لا أبرح حتَّى آكل وأعلف وأشرب، فبينا هم كذلك إذْ رأوا غبرة، فقالوا لرقيبهم: ما ترى؟ فقال: أَرَى خيلاً كالعقبان، عليها فوارس كالصبيان، فقال: تلك فزارة ولا بأس. ثمَّ رأوا غبرة فقالوا: ما ترى؟ فقال: أَرَى خيلاً كأنَّ قوائمها تنقلع من الصخر، قال: تلك عبس والموت. فلم يلبثوا أن خالطتهم الخيل، فصاح صائح: أودى فارس، فنظروا فإذا هو عبد الله بن الصمة، فقال دريد في ذلك شعراً طويلاً، قد ذكرنا طرفاً منه في بعض أبواب المراثي، ومع ذلك يقول في مساعدته أخاه على الرَّأي الَّذي لا يرضاه:
أمرتهُمُ أمري بمُنقطع اللِّوى ... فلم يسْتبينوا النُّصحَ إلاَّ ضُحى الغدِ
فلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى ... ضلالتهم وأنَّني غيرُ مُهْتدِي
وهل أنا إلاَّ من غزيّة إن غَوتْ ... غويتُ وإن ترشُدْ غزيّةَ أرشُدِ
قال آخر:
أخوك الَّذي إن قمت بالسَّيف عامداً ... لتضربَهُ لم يستغشّك في غدِ
ولو جئتَ تبغي كفَّه لتبينَها ... لبادَرَ إشفاقاً عليك من الرَّدي
يرى أنَّه في الودِّ وانٍ مقصرٌ ... علَى أنَّه قد زادَ فيه علَى الجهدِ
وفيما بلغنا أن العباس بن عبد المطلب أوصى ابنه عبد الله حين اصطفاه عمر بن الخطاب أن قال له: يا بني. إن هذا الرَّجل قد قدَّمك على غيرك، فاحفظ عنِّي ثلاثاً: لا تُجري عليك كذباً، ولا تغتابنَّ عنده أحداً، ولا تفشينَّ له سرّاً.
ومن جيد ما قيل في السِّرّ قول النابغة:
لعمرُك إن وشاة الرِّجا ... لِ لا يتركونَ أديماً صَحيحا
فلا تُفشِ سرَّك إلاَّ إليك ... فإن لكلّ نَصيح نصيحا
قال آخر:
وفتيان صدق لستُ أطلِعُ بعضَهم ... علَى سرِّ بعض غير أنِّي جماعُها
يبيتونَ شتَّى في البلادِ وسرّهم ... إلى صخرةٍ صمَّاء أعيا انصداعها
قال آخر:
سأكتمه سرِّي وأحفظُ سرَّه ... ولا غرَّني أنِّي عليه كريمُ
حلين فينسى أوْ جهول يضيعُه ... وما الناسُ إلاَّ جاهل وحليمُ
قال آخر:
لا تسألي النَّاس ما مالي وما ورقي ... وسائلي الناسَ ما وقعي وما خُلُقي
أُعطي السّنانَ غداة الرَّوع حصَّتهُ ... وعامل الرُّمح أرويه من العَلَقِ
وأطعن الطَّعنة النَّجلاء عن عُرُضٍ ... وأحفظُ السرَّ فيه ضَرْبة العُنُقِ
قال قيس بن الخطيم:
وإن ضيَّعَ الأقوامُ سرّاً فإنَّني ... كتومٌ لأسرارِ العَشير أمين
يكونُ لهم عندي إذا ما ضمنتُهُ ... مكانٌ بسَوداء الفؤاد كمين