قال أبو بكر: قد أكثر الشعراء المتقدمون والمتأخرون في مدح الخمر وذمها، وفي وصف طيبها ورقتها، ولم يقل أحد في ذمها ولا في مدحها إلاَّ دون ما تستحقه هي في هذه الدَّار من الذم في الغاية، وهي في الدَّار الآخرة من المدح في النهاية، فأمَّا فضلها في تلك الدَّار فيغني عن الإطناب فيه ما ذكره الله جل وعلا في كتابه من تحبيب الجنة بها، وبما شاكلها إلى أوليائه، وأمَّا ذمها في هذه الدَّار فإنها توقع العداوة والبغضاء، وتدعو إلى الإثم والفحشاء، وتشغل عن أداء المفترضات، وتجرئ عن ارتكاب المحرمات. ولو لم يكن في ذمها غير نهي الله جل وعز عن شربها لكان مغنياً عن غيره. فكيف وقد بين الله جل وعلا من قبيح أفعالها ما يدعو ذوو التمييز، وإن لم تكن محرمة إلى اجتنابها فلعل بعض الخلفاء أن يغلب على عقله سكرة الأهواء. فيقول كيف تكون محرمة مذمومة وممدوحة، وعينها واحدة، ولم تأتي الشريعة بتحريمها. فيقال له: الخمر المذمومة في هذه الدَّار غير الخمر الممدوحة في تلك الدار، لأن أصحاب تلك الدَّار لا يصدعون عنها، ولا ينزفون منها، وتلك لا توقع العداوة والبغضاء، ولا تصدُّ عن ذكر الله وعن فرضه. وهذه الخمر تفعل جميع ذلك، فلهذه العلل صارت الخمر في الدُّنيا مذمومة، وفي الآخرة ممدوحة. ولقد أحسن نصيب في قوله، وقد سامه بعض بني مروان شربها فقال: يا أمير المؤمنين. إنَّه لم يدنني منك جمالي، ولا نسبي، وإنَّما أدناني منك عقلي ولساني. فنشدتك الله أن تدخل عليَّ ما يسلبنيهما فأعفاه حينئذ من شربها. وممَّا في الخمر من المقابح الَّتي يعتدّ بها من لا يفهم من المدائح أنَّها تنفي الأحزان، وتشجّع الجبان، وتسهّل على البخلاء الدّخول في جملة الأسخياء. ولو لم يكن في الخمر عيب غير هذا لكفى، لأن الَّذي توجبه الخمر من هذا الفعل إنَّما هو بزوال التمييز، ونقصان العقل، فإن جاء في تلك العمرات فعل يشبه أفعال السادات لم يكن فاعله محموداً، ولا كان ذلك الفعل إليه منسوباً، لأنه يندم عليه، ويعتذر منه بأن عقله لو كان حاضراً لنهاه عنه، وإن جاء في تلك الحال ما يخرج عن حدّ الاعتدال، وكان ذلك ممَّا يتعذّر تلافيه، ويصعب طريق العذر فيه، كما أنَّها تشجّع الجبناء، وتسمّح البخلاء، فإنها تسفّه الحلماء، وتسخّف العقلاء، وقد كان صنف من القدماء يتركون الخمر والزنا تكرُّماً، وإن لم يكن ذلك في ملّتهم محرّماً. ولقد أحسن زهير حيث يقول:
غدوتُ عليه غُدوةً فوجدتهُ ... قعوداً لديه بالصَّريم عواذلهْ
يُفدّينه طوراً وطوراً يلُمْنهُ ... وأعيا فما يدرين أين مخاتلهْ
فاعرض منه عن كريم مُرزءٍ ... غلوبٍ علَى الأمرِ الَّذي هو فاعلهْ
أخي ثقةٍ لا تهلك الخمر ماله ... ولكنَّه قد يهلك المال نائلهْ
فهذا أحسن من قول طرفة:
أُسدُ غيل فإذا ما شربوا ... وهبوا كلَّ أمونٍ وطمرْ
ثمَّ راحوا عَبَقُ المسك بهم ... يُلحفون الأرض هُدَّاب الأزرْ
وفي هذا النحو يقول حسان بن ثابت:
نوليها الملامة والمنايا ... إذا ما كانَ مغْثٌ أوْ لحاءُ
ونشربُها فتتركنا ملوكاً ... وأسداً ما يُنهنها اللّقاءُ
وهذا قبيح كله لأنهم صيروا سبب السماحة والشجاعة زوال التمييز والمعرفة. وصاحب هذه الحال والمجنون سواءٌ بمنزلة، لأنه يأتي الشيء بغير معرفة، وأمثل من هذا قول عنترة:
فإذا شربت فإنَّني مستهلكٌ ... مالي وعرضي وافرٌ لم يُكلمِ
وإذا صحوتُ فما أقصّر عن ندى ... وكما علمتِ شمائلي وتكرُّمي
وأحسن من هذا قول البحتري:
وما زلتُ خلاًّ للندامى إذا انتشوا ... وراحوا بدوراً يستحثون أنجما
تكرَّمتُ من قبل الكؤوس عليهمُ ... فما اسطعن أن يُحدثن فيك تكرّما
ولسنا مع ما ذكرنا من عيبها ندع أن نذكر طرفاً من الأشعار المستحسنة في وصفها فإنها وإن لم تكن موضعاً للمدح لما قدمناه من ذمها، فقد يحسن المصيب في وصفها ضرباً من الإحسان، إما لحسن تشبيه، أوْ لمعنى يخترعه ويعرف به كما قال الأعشى:
وكأسٍ شربتُ علَى لذّةٍ ... وأخرى تداويت منها بها
لكي يعلم النَّاس أنِّي امرؤ ... أتيت المعيشة من بابها
قال أبو نواس: