يرى البُخْلَ لا يبقى علَى المرء مالَهُ ... ويعلمُ أن الشُّحَّ غير مُخلدِ
كسوب ومتلافٌ إذا ما سألتَهُ ... تهلَّل واهتزَّ اهتزاز المهندِ
مَتَى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خيرَ نارٍ عندها خير موقدِ
وقال أبو العتاهية:
إن المطايا تشتكيكَ لأنها ... قطَعتْ إليكَ سباسيباً ورِمالا
فإذا وردن بنا وردن مُخِفَّةً ... وإذا صدرن بنا صدرنَ ثِقالا
وقال آخر:
راح السريّ وراح الجود يَتبعه ... وإنَّما النَّاس مذموم ومحمودُ
من كان يضمن للسؤال حاجتهم ... ومن يقول إذا أعطاهم عودوا
وقال آخر:
قد زيَّنوا أحسابهم بسماحهم ... لا خيرَ في حسب بغير سماح
أموالهم مبذولة ونفوسُهم ... للموت عند مجالس الأرواح
وقال آخر:
أناسٌ بما أفنوا من المال أحرزوا ... محامدَ ما يبقى من الحمد والأجر
رأوا أن دُنياهُم تبيد فأنزلوا ... نفوسُهم منها بمنزلةِ السفر
وقال آخر:
نزلتُ علَى آل المهلب شاتياً ... بعيداً عن الأوطان في زمن مَحْلِ
فما زالَ بي إكرامُهم وافتقادُهمْ ... وألطافُهمْ حتَّى حسِبتهُمُ أهلي
البحتري:
جادَ حتَّى أفنى السُّؤال فلمّا ... بادَ منا السؤال جادَ ابتداءَ
فهو يُعطي جزلاً ويُثني عليه ... ثمَّ يُعطي علَى الثناء جزاءَ
وقال علي بن العباس الرومي:
لا يُبذل الرِّفْدَ حين يبذله ... كمشتري الحمد أوْ كمُعتاضهِ
بل يفعل العُرف حين يفعله ... لجوهر العرف لا لأعواضهِ
الباب السادس والستون ذكر
من أسدى المعروف إليه فشكره وأظهر ما عليه ذكروا أن القطامي كان يهجو قيساً فأسره زفر بن الحارث فامتن عليه وأمر له بمائة من الإبل فامتدحه بعد ذلك بأشعار كثيرة منها قوله:
منْ مُبلغ زفر القيسي مَدحته ... عن القطامي قولاً غيرَ إفنادِ
إنِّي وإنْ كان قومي ليس بينهم ... وبين قومك إلاَّ ضربةُ الهادي
مُثنٍ عليك بما استبقيت معرفه ... وقد تعرض منّي مُقبل بادي
إذْ يعتريك رجال يبتغون دمي ... ولو أطعتهُم أبكيت عوادي
وقال ذو الرُّمَّة:
لولا اختياري أبا حفصٍ وطاعته ... كادَ الهَوَى من غداة البين يعتزمُ
له عليَّ أيادٍ لستُ أكفرها ... فإنما الكفرُ أن لا تشكر النعمُ
إذا هبطت بلاداً لا أراك بها ... تجهمتني وحالت دوننا الظلمُ
أغرّ أروع بهلول أخي ثقةٍ ... حلاحل من يراه اللين والكرمُ
يُريد ذا الشَّيْب منه شيبه كرماً ... ويستبين فتاهم حين يحتلمُ
وقال محمد بن سعيد السعدي:
سأشكر عمرواً إن تراخت منيتي ... أياديَ لم تُمنَن وإنْ هي جلَّت
فتى غيرُ محجوب النَّدَى عن صديقه ... ولا مظهرَ الشكوى إذا النعل زُلَّت
رأى خلة من حيث يُخفى مكانُها ... وكانت قذى عينيه حتَّى تجلَّت
وقال آخر:
شكرتك إن الشكر حظُّ من التُّقى ... وما كلُّ من أوليْتهُ نعمةً يقضي
فأحييتَ لي ذكرى ومن كان خاملاً ... ولكن بعض الذكر أنبهُ من بعضِ
وقال آخر:
فلو كان للشكر شخصٌ يبين ... إذا ما تأمَّلَهُ النَّاظرُ
لمثَّلتُهُ لكَ حتَّى تراهُ ... فتعلم أنِّي امرؤ شاكر
وهذا الكلام حسن إن ترك على جملته، وقبيح إن كشف عن حقيقته، وذلك أن صاحبه لم يقصد بشكره، وإلى أن يؤدي الحق الَّذي لزمه في نفسه وإنَّما قصد إلى أن ولي النعمة يشكره وفي إظهار الشكر خلال كثيرة كل واحدة منها أجلَّ من هذه الخلة قدراً، وأجمل منها ذكراً، على أن هذه وإن كان غيرها أحسن في الحقيقة منها فإنَّه لاعناً بالمنعم عليه عنها لئلا يقع عنده. أن إمساكه قصدٌ منه إلى كفران نعمته، فيمنعه ذلك من معاودة الأنعام عليه، وعلى مثله كما قال عنترة العبسي:
نبئت عمرو غير شاكر نعمتي ... والكفر مجنية لشكر المنعم