كانتْ لقلبيَ أهواءٌ مفرَّقةٌ ... فاستجمعَتْ مُذْ رأتكَ العينُ أهوائِي
فصارَ يحسدُنِي مَن كنتُ أحسدهُ ... وصرتُ مولَى الورَى مذْ صِرتَ مولائِي
حتَّى إذا استيأَسَ الحسَّادُ مِن دَرَكي ... وقلَّ أعدائيَ مذْ قلَلَتْ أكْفائِي
حَمَيتَ طعمَ الكرَى عينيَّ فاهتجرا ... فصارَ طِيبُ الكرَى مِن بعضِ أعدائِي
مَن خانَ هانَ وقلبِي رائدٌ أبداً ... مَيلاً إليكَ علَى هجرِي وإقصائِي
لا بدَّ لي منكَ فاصنعْ ما بدَا لكَ بي ... فقدْ قدرتَ علَى قتلِي وإحيائِي
وأنشدني محمد بن الخطاب:
علَّمتنِي الإصدارَ والإيرادا ... فارْفِقي بِي فقدْ ملكتِ القيادا
لا تقولِي إذا نأيتُ سلاَ عنَّ ... اوإن زُرتكمْ أرادَ البعادا
علِّميني الدُّنوَّ منكِ إذا شئ ... تِ وعنكِ البعادَ ألْقَ الرَّشادا
وقال الأعشى:
دارٌ لقاتلةِ الغُرانقِ ما بِها ... إلاَّ الوحوشُ خلتْ لهُ وخلا لَها
ظلَّتْ تُسائلُ بالمتيَّمِ أهلهُ ... وهيَ الَّتي فعلتْ بهِ أفعالَها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
دارُ الَّتي صادتْ فؤادكَ إذْ رمتْ ... بالخَيفِ يومَ التفَّ أهلُ الموسمِ
فتجاهلتْ عمَّا بِنا ولقدْ رأتْ ... أنْ قدْ تخلَّلتِ الفؤادَ بأسهمِ
أرسلتُ جاريَتِي فقلتُ لها اذْهبِي ... فاشْكِي إليها ما لقيتُ وسلِّمِي
قولِي يقولُ تخوَّفِي في عاشقٍ ... صبٍّ بكمْ حتَّى المماتِ متيَّمِ
ويقولُ إنِّي قدْ علمتُ بأنَّكمْ ... أصبحتمُ يا بِشرُ أوجهَ ذِي دمِ
فتبسَّمتْ عُجباً وقالتْ قولةً ... إلاَّ فيُعْلِمَنا بما لمْ نعلمِ
عهدِي بهِ واللهُ يغفرُ ذنبهُ ... فيمَا بدَا لِي هوًى متقسِّمِ
قالتْ لها بلْ قدْ أردتِ بعادَهُ ... لمَّا علمتِ فإنْ بذلتِ فتمِّمِي
فهذا التَّجنّي والمباعدة أمتع من الإقرار والمواصلة لأن الوصل المتقدم لوقوع العلم إن كان عن مودّة صادقة لم يزده العلم بحقيقة الحال إلاَّ توكيداً وإن كان امتحاناً وتعرُّفاً لم تزده الثقة إلاَّ وفاء وتعطُّفاً وإن كان الَّذي تظهره الثقّة والإدلال نعمة لا يؤدى شكرها إذْ كان دليلاً على تمام الحال الَّتي قصدها ومنهم من يتظاهر عليه ثقلها فيضعف فؤاده عن حملها فتراه ينهى ويأمر بالكتمان ومن قنع بهذه الحال كان انتفاعه قليلاً وقلقه بتعرُّف حاله عند صاحبه طويلاً وليست تنال الرُّتب إلاَّ بالتَّجاسر ولا تصحّ العلى إلاَّ للمخاطر وربَّما نجَّت الجبان قناعته وأهلكت الشُّجاع جسارته بلغني أن فتًى من الأعراب يكنَّى امرء القيس هويَ فتاة من الحيّ فلمَّا وقفت على ما لها عنده هجرته فأشفى على التلف فلما بلغها ذلك جاءت فأخذت بعضادتي الباب وقالت كيف نجدك يا امرء القيس فأنشأ يقول:
دنتْ وظلالُ الموتِ بيني وبينها ... وأدلتْ بوصلٍ حينَ لا ينفعُ الوصلُ
ثمَّ لم يلبث إلاَّ يسيراً حتَّى مات فمن غلب عليه الجبن من مثل هذه الحال مال إلى التستُّر والكتمان ومن طمع في مثل ما ذكرنا من حسن المجازاة بالعدل والوصال مال إلى الإعلان وبلوغ الغاية في الوجهين جميعاً شديد والتَّوسُّط أقرب إلى السَّلامة لأن من لم تعلمه بما تنطوي له لم تلذَّ بما يبدو لك من وصله والهجر الَّذي يتولَّد عن الثّقة بالوداد خير من الوصال الَّذي يقع من غير اعتماد ومن أطلعته على كل ما تضمره له لم تجد سبيلاً إلى مكافاته على ما يتجدد لذلك من إحسانه هذا إذا سلمت من الدَّالة المؤدية إلى التلف فخير الأمور لمن أطاقه أن يظهر بعضاً ويخفي بعضاً ثمَّ يظهر الازدياد حالاً فحالاً على أن الحال إذا استغرقت صاحبها كان استعمال الاختيار فيها محالاً.
ولقد أحسن العباس بن الأحنف حيث يقول:
مَنْ كانَ يزعمُ أنْ سيكتمُ حبَّهُ ... حتَّى يشكِّكَ فيهِ فهوَ كذوبُ
الحبُّ أغلبُ للرِّجالِ بقهرهِ ... مِنْ أنْ يُرَى للسِّرِّ فيهِ نصيبُ
وإذا بدَا سرُّ اللَّبيبِ فإنَّهُ ... لمْ يبدُ إلاَّ وهوَ مغلوبُ
إنِّي لأُبغضُ عاشقاً مُتحفِّظاً ... لمْ تتَّهمهُ أعينٌ وقلوبُ
الباب السادس التَّذلُّلُ للحبيبِ مِن شيمِ الأديبِ