طاف يبغي نجوةً ... من هلاكٍ فهلكْ
كل شيءٍ قاتل ... حين تلقى أجلك
والمنايا رَصَدٌ ... للفَتَى حيثُ سلكْ
أيُّ شيءٍ حسنٍ ... في فتًى لم يكُ لكْ
الباب السابع والخمسون
ذكر
من جزع فاحتاج إلى تعزية أوليائه
ومن رزق الصبر فاستغنى بحسن عزائه
حدثنا القاضي إبراهيم بن عيسى الزهري قال، وحدثنا محمد بن عاصم صاحب الحانات قال: حدثنا سليمان بن عمرو وأبو داود النخعي عن مهاجر بن الشامي عن عبد الرحيم بن غُنم عن معاذ بن جبل قال: مات ابن لي فكتب إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم. من محمد رسول الله إلى معاذ بن جبل سلام عليك، فإنِّي أحمدُ إليك الله الَّذي لا إله إلاَّ هو. أما بعد، فعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر، ورزقنا وإياك الشكر، ثمَّ أن أنفسنا وأموالنا وأهالينا وأولادنا مواهب لله الهينة...... المستودعة متعك به في غبطة وسرور، وقبضه أجر كبير إن صبرت واحتسبت، فلا تجمعنَّ عليك يا معاذ أن يُحيط جزعك أجرك فتندم على ما فاتك، فلو قدمت على ثواب مصيبتك عرفت أن المصيبة قد قصرت عنه، واعلم أن الجزع لا يردُّ ميتاً، ولا يدفع حزناً، فليذهب أسفك ما هو نازل بك، فكان قدر السلام. لولا ما تقدم من ضماننا أن نُضمّن كل باب مائة بيت من الشعر لاستغنينا بهذه التعزية وحدها عن كل ما كان من جنسها لأنها بحمد الله مستغنية عما يوجدها، دالّة على قبح ما يخالفها. وما عسى أن نذكر بعدها، هل تركت لقائل مقالاً أوْ ضمنت أقطارها زللاً واختلالا معاذ الله هي أحسن كمالاً، وأتم جمالاً من أن يحبسها التوكيد أوْ ينوء بها التأييد، وأنَّها لموجبة على من عقلها أن يعتد المصيبة نعمة، وأن يرى الجزع منها نعمة، ولقد أصاب أبو تمام الطائي بعض الإصابة في قوله، وإن كان سمع هذه التعزية وكسا شعره بعض معانيها فقد أحسن في فعله حيث يقول:
لله درُّ بني خليفٍ معشراً ... أي امرءٍ فُجعوا به ولربما
فُجعوا بذي الحسب التليد فأصبحوا ... لا مُلبسين ولا ضعافاً رُخّما
حتَّى كأنَّ عدوّهم ممَّا يرى ... من صبرهم حسبَ المصيبة أنعما
وممَّن عزَّى نفسه فأحسن تعزيتها، وكفى أولياءه مداراتها، ومؤونة التشاغل بها ابن سبيل معبد البجلي حيث يقول:
وهوَّن عنِّي بعض وجدي أنَّني ... رأيت المنايا تغتدي وتَنوبُ
وأنِّي رأيتُ النَّاس أفنى كرامَهم ... حوادث ذل العالمين نصيبُ
وما نحن إلاَّ منهمُ غير أننا ... إلى أجل ندعى له فنجيبُ
ولقد أحسن الَّذي يقول:
وهوَّن وجدي إنَّما هو كائن ... أمامي وإنِّي واردُ اليوم أوْ غدِ
وهوَّنَ وجدي إنَّني لم أقلْ له ... كذبتَ ولم أبخلْ بما ملكتْ يدي
وقال عبد الصمد يرثي عمرو بن سعيد بن سَلَم:
تولى أبو عمرو فقلت له عمرو ... كفانا طلوعُ البدر غيبوبة البدر
وكنا عليه نحذِر الدَّهر وحده ... فلم يبقَ ما يُخشى عليه من الدَّهر
وهوّن وجدي أن من عاش بعده ... مُلاقي الَّذي لاقى وإن مُدَّ في العُمر
وهوّن وجدي إنَّني لا أرى امرءً ... من النَّاس إلا وهو مُغضٍ علَى وتر
وكانت تعم النَّاس نعماء كفّه ... فعمّوا عليه بالمصيبةِ والأجر
وما قصرت الخنساء حيث تقول:
ولولا كثرةُ الباكين حولي ... علَى إخوانهم لقتلتُ نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعزّي النَّفس عنه بالتأسي
وهذا لعمري من أحسن الكلام لفظاً، وأحسنه اختصاراً، وأشدَّه استيفاءً لأجل معنى، وذلك أنَّها وكَّدت جزعها عليه بإخبارها أنَّه لا مانع لها من قتل نفسها إلاَّ كثرة نظائرها، ثمَّ أفردت قتيلها من جملة قتلى غيرها فشبهت نفسها بأنفسهم، ورفعت قتيلها عن قتلاهم، وقد أحسن الَّذي يقول، وإن كان دون ذلك:
ولا تجزعي يا أمّ زيدٍ وفاته ... ستأتي المنايا كل حاف وذي نعل
فلولا الأسى ما بتُ في الحبس ليلةً ... ولكنْ إذا ما شئتُ جاوبني مثلي
وقال الحسن بن عبيد الربيعي في أخيه جبار:
وطيّب نفسي عن خليلي أنَّني ... إذا شئتُ لاقيتُ امرءً يتلَهفُ
جرينا لما حالَ الحوادث بينه ... وبين الأحباء الَّذي كان يألفُ