فتى مات بين الضرب والطّعن ميتةً ... تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ
وما مات حتَّى ماتَ مضربُ سيفهِ ... من الضرب واعتلَّت عليه القنا السُّمْرُ
وقد كان قرب الموتِ سهلاً فَردَّه ... إليه الحفاظُ المرُّ والخُلُقُ الوعْرُ
ونفسِ تَعاف العارَ حتَّى كأنه ... هو الكفرُ يوم الروع أوْ دونه الكفرُ
فأثبتَ في مستنقعِ الموتِ رجله ... وقال لها من تحت أخمصك الحشرُ
كأنَّ بني نبهان يومَ وفاتِهِ ... نجومُ سماء خرَّ من بينها البدرُ
وأنَّى لهم صبرٌ عليه وقد مضَى ... إلى الموت حتَّى استشهدا هو والصَّبرُ
فتًى كانَ عذب الرّوح لا من غضاضةٍ ... ولكنّ كبراً أن يكونَ به كِبرُ
فتًى سلبتهُ الخيلُ وهو حمًى لها ... وبَزّته نار الحرب وهو لها جمرُ
وقد كانت البِيض المآثر في الوغى ... بواتِر فهي الآن من بعده بُتْرُ
لئن أُبغضَ الدَّهرُ الخؤونُ لفقدهِ ... لعَهدي به ممَّن يُحَبّ به الدَّهرُ
لئن غدرتْ في الرَّوع أيَّامُهُ به ... لما زالت الأيامُ شيمتُها الغدرُ
لئن أُلبست فيه المنية طيئاً ... لما عريت منه تميم ولا بكرُ
كذلك ما ننفكُّ تفقدُ هالكاً ... يُشاركنا في فقده البدو والحضْرُ
ثوى في الثرى من كان يحيا به الثرى ... ويغمرُ صَرفُ الدَّهر نائلهُ الغمْرُ
مضى طاهِرَ الأثواب لم يبْق روْضةٌ ... غداةَ ثوى إلاَّ اشتهتْ أنَّها قبرُ
عليك سلامُ الله وقفاً فإنني ... رأيتُ الكريمَ الحُرّ ليس له عمرُ
وقالت امرأة من كندة في أخوتها:
أبَوْ أنْ يفرُّوا والقنا في نحورهم ... فماتوا وأطرافُ القنا تقطرُ الدّما
ولو أنهم فرّوا لكانوا أعزّةً ... ولكنْ رأوا صبراً علَى الموت أكرما
هَوتْ أمهم ماذا بهم يومَ صُرَّعوا ... بجيشانَ من أسباب مجد تصرَّما
أنشدنا أحمد لأبي تمام:
بأبي وغير أبي وذاك قليلُ ... ثاوٍ عليه ثرى النياح مهيلُ
خَذلتْهُ أُسرتهُ كأنَّ سراتهُمْ ... جَهلوا بأنَّ الخاذل المخذولُ
أكلالُ أشلال الفوارس بالقنا ... أضحى بهنَّ وشُلوهُ مكلولُ
كُفّي فقتلُ محمدٍ لي شاهدٌ ... إن العزيزَ مع القضاءِ ذليلُ
أنسى أبا نصرٍ نسيتُ إذن يدي ... في حيثُ ينتصرُ الفَتَى ويُنيلُ
هيهاتَ لا يأتي الزَّمان بمثله ... إن الزّمانَ بمثله لبخيلُ
للسيفِ بعدك حُرقةٌ وعويلُ ... وعليك من وجد التليد غليلُ
إنْ طالَ يومُكَ في الوغى فلقد ترى ... فيه ويومُ الهام منكَ طويلُ
يا يومَ قَحْطَبة لقد أبقيتَ لي ... حُرَقاً أرى أيامَها ستطولُ
ليثٌ لو أن الليثَ قام مقامه ... لانصاعَ وهو يَراعةٌ إجفيلُ
لما رأى جَمْعاً قليلاً في الوغى ... وأولو الحفاظ من القليل قليلُ
لاقى الكريهةَ وهو مُغمِدُ رَوْعِه ... فيها ولكن سيفُهُ مسلولُ
ومشى إلى الموت الزؤام كأنما ... هو من سهولته عليه دخيلُ
ما زال ذاك الصَّبرُ وهو عليكمُ ... بالموت في ظِلِّ السيوف كفيلُ
مُسْتبسلونَ كأنما مُهجاتُكمْ ... ليست لكم إلاَّ غداة تسيلُ
ألِفوا المنايا والقتيل لديهُمُ ... من أن يُخلي العيشَ وهو قتيلُ
إن كان رَيبُ الدَّهر أثكلنيكُمُ ... فالدَّهر أيضاً ميّتٌ مثكولُ
وأنشدني بعض الأدباء:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً ... كأنك لم تجزع علَى ابن طريفِ
فتى لا يُحبُّ الزادَ إلاَّ من التقى ... ولا المال إلاَّ من قنا وسيوفِ
وأنشدني ابن أبي طاهر لأبي تمام:
لو فَرَّ سيفٌ من العَيّوق مُنطلِقاً ... ما كان إلاَّ علَى هاماتهم يَقعُ
يودُّ أعداؤهم لو أنهم قُتِلوا ... وأنهم صنعوا مثل الَّذي صنعوا
ويضحك الدَّهرُ منهم عن غطارفةٍ ... كأن أيامَهمْ من حُسنها جُمعُ
منْ لم يُعاينْ أبا نصرٍ وقاتله ... فما رأى ضيغماً في شَدقِها سُبَعُ
فيمَ الشماتَةُ إعلاناً بأسُدِ وغًى ... أفناهُمُ الصبرُ إذْ أبقاكُمُ الجزعُ