منِّي بأرضكِ شجوٌ لستُ ناسيهِ ... لوْ بالحجازِ هوَى أيَّامكِ القدُمِ
وكتب عبد الله بن الدمينة إلى أمامة:
وأنتِ الَّتي كلَّفتِني دلَجَ السُّرَى ... وجونُ القطَا بالجَلْهتينِ جثومُ
وأنتِ الَّتي قطَّعتِ قلبِي حزازةً ... وفرَّقتِ قرحَ القلبِ فهوَ كليمُ
وأنتِ الَّتي أحفظتِ قومِي فكلُّهمْ ... بعيدُ الرِّضا دانِي الصُّدودِ كتومُ
وكتبت إليه:
وأنتَ الَّذي أخلفْتَني ما وعدْتَنِي ... وأشمتَّ بِي مَن كانَ فيكَ يلومُ
وأبرزْتَنِي للنَّاسِ ثمَّ تركْتَنِي ... لهمْ غرَضاً أُرمَى وأنتَ سليمُ
فلوْ أنَّ قولاً يكلِمُ الجسمَ قدْ بدا ... بجسميَ مِنْ قولِ الوُشاةِ كلومُ
وكتب بعض أهل الأدب إلى أخ له من أهل هذا العصر:
سيِّدي أنتَ قدْ أسأْتَ بقولِي ... سيِّدي أنتَ فارضَ عبدَكَ عبْدا
لا تلقَّى الدُّعاءَ منِّي بنكرٍ ... فتُرى قاتلاً لنفسيَ عمدَا
فأجابه:
أنا بالرِّقِّ في الهوَى منكَ أولَى ... وأرَى ذاكَ يشهدُ اللهُ مجدَا
علمَ اللهُ أنَّني منكَ راضٍ ... أنْ ترانِي لعيدِ عبدِكَ عبدَا
وقال آخر:
يا مُوقدَ النَّارِ إلهاباً علَى كبدِي ... إليكَ أشكُو الَّذي بِي لا إلى أحدِ
إليكَ أشكُو الَّذي بِي مِن هواكَ فقدْ ... طلبتُ غيركَ للشَّكوَى فلم أجِدِ
وقال بعض الأعراب:
إذا لمتَها قالتْ عديمٌ وإنَّما ... صمتَّ فما جرَّبتَ جُوداً ولا بخلا
بلَى قلتُ هلْ ثمَّ انصرفتْ ولمْ تعدْ ... فتستنكِرَ الإعراضَ أوْ تعرفَ البذْلا
أمَّا هذه فقد قرعت صاحبها على تركه تقاضيها تقريعاً يُغري المغترّين بشكوى كل ما يجدونه وبالإلحاح على من يودُّونه في المطالبة بجميع ما يريدونه وهذه حال من تحكَّم على مواردها تحكَّمت عليه مصادرها فيندم حيث لا تنفعه الندامة وهرب إلى حيث لا تنفعه السلامة وكيف يتهيَّأ للنَّادم على إظهار ما في ضميره أن يخفيه بعد إظهاره وقد كان جديراً أن يظهر منه بغلبات الحال في وقت حرصه على أسراره والمحبوب كثيراً ما يُطمع محبُّه في نفسه هذا الإطماع أو نحوه ليطَّلع على حقيقة ما في ضميره وقلبه فإذا وثق بصحَّة الملك زالت عنه دواعي الشك فتراخى حينئذ عن الاستعطاف تراخي المالكين وحصلت للنَّاسي المُظهر ما في ضميره ذلَّة المملوكين ولم أجد فيما جريت إليه في هذا الفصل بأرزأ مني على من أظهر إلفه على ما يجد من المحبَّة وإنَّما جريت إلى عيب من يدعوه إلى إظهار ما في نفسه رجاء النَّوال من صاحبه ولعمري لقد قال حبيب بن أوس في هذا الباب ما يقرب من جهة الصواب وهو قوله:
يا سقيمَ الجفونِ غيرَ سقيمِ ... ومريبَ الألحاظِ غيرَ مريبِ
إنَّ قلبي لكمْ لكالكبدِ الحرَّ ... ى وقلبي لغيركمْ كالقلوبِ
لستُ أُدلي بحرمةٍ مستزيداً ... في ودادٍ منكمْ ولا في نصيبِ
غيرَ أنَّ العليلَ ليس بمذمو ... مٍ علَى شرحِ ما بهِ للطَّبيبِ
لوْ رأيْنَا التَّوكيدَ خطَّةَ عجزٍ ... ما شفعْنا الأذانَ بالتَّثويبِ
وهذا الَّذي وصف أيضاً من الحال غير مستوعب لحد الكمال وذلك أن الكامل في حاله هو الَّذي كان غرضه في إظهار إلفه على كل ما يُلقى به أن يجعله مشاركاً له في علم ضمائره ومتحكِّماً معه لا بل عليه في سرائره فلا يتحكَّم هو حينئذ على خليله في أمرٍ ولا يستظهر عليه بسرٍّ وكلُّ من زال عن هذه الحال فزائلٌ عن مرتبة الكمال.
الباب الخامس
إذا صحَّ الظفَرُ وقعتِ الغِيَرُ
أشعار هذا الباب من أولها إلى آخرها مضادَّة للأشعار الَّتي قبلها لأنَّ في أشعار الباب الماضي تحريضاً للمحبِّ على إظهار محبوبه على ما له في نفسه ولوماً لمن كتم عن صاحبه ما يجده به وما يلقاه بسببه وأشعار هذا الباب إنَّما هي تحريض على الكتمان وتحذير من الإعلان والعلَّة في هذا ما قدَّمنا ذكره من أنَّ المحبوب يستعطف محبَّه ليشرف على حقيقة ما في قلبه وليتمكَّن أيضاً هواه من نفسه فإذا وقع له اليقين استغنى عن التعرُّف وإذا حصل له الودُّ استغنى عن التَّألُّف فحينئذ يقع الغضب عن غير ذنب والإعراض من غير وجدٍ لسكون القلب الواثق واستظهار المعشوق على العاشق.