أظنُّ دموعَ العينِ تذهبُ باطناً ... إلى القلبِ حتَّى انصاعَ وهو صديعُ
وقال عمرو بن متبعة الرقاشي:
تضيقُ جفونُ العينِ عنْ عبراتها ... فتفسحُها بعدَ التَّجلُّدِ والصَّبرِ
وغُصَّةِ صدرٍ أظهرتْها فرفَّهتْ ... حرارةَ حزنٍ في الجوانحِ والصَّدرِ
وقال آخر:
سأبكي وما لي عبرةٌ من معوَّلٍ ... لديكِ وما لي غيرُ حبِّكِ من جُرمِ
لعلَّ انسكابَ الدَّمعِ يُعقبُ راحةً ... من الوجدِ أوْ يشفي الفؤادَ منَ السُّقمِ
وظنِّيَ أنْ لا يذهبَ الحزنُ بالبكا ... عليكِ وأن أزدادَ كلْماً علَى كلْمِ
وقال ذو الرمة:
فوالله ما أدري أجوْلانُ عبرةٍ ... تجودُ بها العينانِ أحرى أمِ الصَّبرُ
وفي هملانِ العينِ من غُصَّةِ الهوَى ... رواحٌ وفي الصَّبرِ الجلادةُ والأجْرُ
وقال الفرزدق:
ألمْ ترَ أنِّي يومَ حرِّ سُويقةٍ ... بكيتُ فنادتني هُنيدةُ ماليا
خليلٌ دعا والرَّملُ بيني وبينهُ ... فأسمعني سقياً لذلكَ داعيا
وكانَ جوابي أنْ بكيْتُ صبابةً ... وفدَّيْتُ من لوْ يستطيعُ فدانيا
وقلتُ لها إنَّ البكاءَ لَراحةٌ ... به يشتفي من ظنَّ أن لا تلاقيا
وقال ذو الرمة:
أمِنْ حذرِ الهجرانِ قلبكَ يجمحُ ... كأنَّ فلوّاً بينَ حِضْنيكَ يرمحُ
أمنزلتَيْ ميٍّ سلامٌ عليكما ... علَى النَّأيِ والنَّائي يودُّ وينصحُ
وإنْ كنتُما قد هجتُما راجعَ الهوَى ... لذي الشَّوقِ حتَّى ظلَّتِ العينُ تفسحُ
أجلْ عبرةٌ كادتْ لفُرقانِ منزلٍ ... لميَّةَ لو لمْ تُسهلِ العينُ تذبحُ
وقال أيضاً:
خليليَّ عوجا من صدورِ الرَّواحلِ ... بجُمهورِ حزْوى فأبكيا في المنازلِ
لعلَّ انحدارَ الدَّمعِ يُعقبُ راحةً ... من الوجدِ أو يشفي نجيَّ البلابلِ
دعاني وما داعي الهوَى من بلادها ... إذا ما نأتْ خرقاءُ عنِّي بغافلِ
وما يومُ خرقاءَ الَّذي فيهِ نلتقي ... بنحسٍ علَى عيني ولا متطاولِ
وإنِّي لأُنحي الطَّرفَ من نحوِ غيرها ... حياءً ولو طاوعتهُ لم يُعادلِ
إذا قلتُ ودِّعْ وصلَ خرقاءَ واجتنبْ ... زيارتها تخلق حبالُ الوسائلِ
أبتْ ذكرٌ عوَّدْنَ أحشاءَ قلبهِ ... خفوقاً وقضَّاتُ الهوَى في المفاصلِ
ولقد أحسن سابق اليزيدي في قوله:
وقد رابني من فعلِ عينيَ أنَّها ... إذا ذُكرتْ سُعدى اعتراني جُمودُها
وفي الدَّمعِ لو جادتْ به العينُ شاهدٌ ... عليها فلمْ يشهدْ لنفسي شهودُها
ولبعض أهل هذا العصر:
يا من إذا صدَّ لم أُظهرْ له جزَعا ... لا تحسبنِّي علَى الهجرانِ ذا جلَدِ
ما يمنعُ الدَّمعَ أن تجري غواربهُ ... إلاَّ شماتةُ من قدْ كانَ ذا حسدِ
فيضُ الدُّموعِ وإنْ تمَّتْ بوادرُها ... أشفى لمنْ عالجَ البلوى منَ الكمدِ
وقال آخر:
نزفتُ دمعي وأزمعْتُ الرَّحيلَ غداً ... فكيفَ أبكي ودمعُ العينِ منزوفُ
واسَوْأتي من عيونِ العاشقينَ غداً ... إذا رحلتُ ودمعُ العينِ مكفوفُ
هذا البائس يعتذر من ذهاب دموعه ولو عرف علَّة ذهابها لكان محتاجاً إلى الاعتذار لو دامت من دوامها.
وأحسن من هذا قول قيس بن ذريح:
تُشوِّقني ذكرى إذا ما ذكرتُها ... وكمْ عرضُ أرضٍ دونها وسماءُ
ومن عبراتٍ تعتريني أكفُّها ... ومن زفراتٍ ما لهنَّ فناءُ
ومن قولها إنَّ القُوى قد تقطَّعتْ ... وهلْ لقُوًى لا تستجدُّ بقاءُ
ومن أنَّها باتتْ ولم تدرِ ما الَّذي ... لها عندنا من خلَّةٍ وصفاءُ
ومن أريحيَّاتِ الصِّبى عندَ ذكرها ... ولمَّاتِ شوقٍ ما بهنَّ خفاءُ
فلا حبَّ حتَّى يلصقَ العظمُ بالحشا ... ولا وجدَ حتَّى لا يكونَ بكاءُ
وقد لطف أبو تمام في هذا المعنى حيث يقول:
وإذا فقدْتَ أخاً ولم تفقدْ لهُ ... دمعاً ولا صبراً فلستَ بفاقدِ
أفلا ترى إلى إزرائه على الدَّمع وتقصيره بأهله وإخباره أنَّ من قويت حاله انقطع دمعه ونحل جسمه.
ولقد أحسن الَّذي يقول:
قدْكَ فلا دمعٌ ولا صبرُ ... ربعُ الهوَى من أهلهِ قفْرُ