وقد اختلف في إيضاح معناه. ومنشأ خفائه الشطر الأول فقيل المعنى إذا أنا لم تكبرني وتجلني الكبراء ماج الناس من عظم ما يحل بهم فأنجدوا واتهموا. وأيمنوا واشأموا. واهتدوا واعرقوا. وغربوا وشرقوا. وغدوا في كل واد هياماً. وصار الأمام وراءً والوراء أماماً. وفيه رمز إلى أنه لا يبقى إذ ذاك في زوايا الخمول. بل يصول ويجول. ولا يخفى أن في إضافة وراء إلى الياء. فيها عن هذا النوع إباء. وقيل المعنى إذا لم يكبرني الكبراء. ويعظمني العظماء. اختلف الناس في الذهاب والمجيء إلي في كل حين. فصار أمامي وراء لقوم وورائي أماماً لآخرين. يسألوني السبب لذلك. أو يستفسرون رأيي في أولئك. أو كانوا عوضاً عنهم. ولم يهملوني تباً لهم. وفيه إشارة إلى أن فيه ما يكفيه. عن إجلال الكبراء ويغنيه. وإن ترك إجلالهم إياه. لا يحط عند العامة شيئاً من علاه. فليس ككثير ممن يزعم نفسه شيئاً. ويحسب أن لكماله الذاتي قد تبوأ مكاناً علياً. وإذا أجلته الكبراء رمقته بالإجلال العيون. وإذا لم تجله انحط إلى حضيض الهون. حيث أن رأس ماله الذي يتجر به بين العامة هو ذلك الإجلال. فمتى فقده صار أفلس من ابن أذل من اعتبارهم إياه بحال من الأحوال. وقيل المعنى إذا أنا لم تكبر في الكبراء استوت عندي الأضداد. ولم يتفاوت لدي ما ورائي وما أمامي من البلاد. فقوله) ورائي أمام والأمام وراء (كناية عن استواء الأضداد من الأشياء وفي ذلك رمز إلى أنه) لا يقيم على ضيم يراد به (وأنه إذا لم يجل في بلد لم يفرق بين شرق البلاد وغربه. وقيل المعنى إذا أنا لم تجلني الكبراء. ولم تعظمني العظماء. أوليهم ظهري. ولا أرى الإقبال إليهم مع إدبارهم عني لائقاً بقدري. ووجه دلالة ورائي إمام الخ على الإدبار عنهم وترك الإقبال إليهم ظاهر. وقيل أراد إذا أنا لم تجلني الكبراء فتكت فتكاً كبيراً. فجعلت الصغير من الناس كبيراً والكبير منهم صغيراً. فالمراد بالأمام والوراء من كان كبيراً مقدماً ومن كان صغيراً مؤخراً. وقيل أراد بأمامه ما يقال أو يفعل بحضوره عادة عند إرادة التعظيم. من المدح ونحوه مما يدل على التكريم. وبالوراء ما يقابل ذلك من الأشياء. يعني إذا أنا لم يجلني الكبراء كان مدحي وتعظيمي في غيبتي. وذمي سواء المعاملة في حضرتي. وفيه رمز إلى أن فيه ما لا يستطاع إنكاره أو كتمه بحال. غاية ما في البال. إنه عند عدم إجلاله يبدي في غيته ويقال. والقولان كما ترى) وكتب (الفاضل الشيخ عبد الله البيتوشي على البيت) ما نصه (علق كون وراءه أماماً وما له وراء بترك الكبراء وإجلاله وإعظامه. ولعله سمع الكبراء قول حاسديه فيه فعد ذلك ترك إكبارهم إياه فيقول إيثارهم حاسدي علي وإصاختهم إلى قولهم دين قولي جعل ورائي وهم الحساد أماماً أي أمام الكبراء وجعل أمامي أي الجهة التي يجب على الكبراء أن يتوجهوا إليها وراءً أي وراء الكبراء انتهى.
ولعمري أنه توجيه نازل مستغرب جداً من ذلك الفاضل. وقيل أراد بالوراء الموت. بالأمام الحيوة فالمنى إذا أنا لم تعرف الكبراء فضلي فموتي حياتي وحياتي موت لي. وفيه رمز إلى أنه لعظم نفسه. يختار عند ذلك الحلول في رمسه. أو إلى أنه عند ذاك. يفعل بهم ما يأخذ به إلى الهلاك. وقيل أراد بالوراء القبيح وبالأمام الحسن. والمعنى إذا أنا لم تكبرني الكبراء فيكون عندي القبيح حسناً. والحسن قبيحاً. وفيه رمز إلى أنه يتشبث بكل سبب في نكايتهم. ولا يمنعه ارتكاب القبيح عن مقابلتهم. وقيل وقيل وأكثر الأقوال أماماً ووراء.) كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء (وأقربها انسياقاً للبال. وأخلاها عن التكلف في المقال. ما تضمن إفادة الأدبار عمن لم يجله. ولم يعرف له فضله. وقد ذكرناه فيما سبق. فتأمل فيه تجده الأحق.
وكقول بعض الشعراء:
وأما عن هوى ليلى وتركي ... زيارتها فإني لا أتوب