ووجه الأبلغية بأن رحمته تعالى على الرفع تكون مطلقة غير مرتبة على شيء بخلافها على الجزم فإن الكلام عليه في معنى الشرط. أي) أن ترحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء (ولا يعكر على أبلغية الرفع إفادة الجزم الترغيب في رحمة من في الأرض لأن هذه الإفادة إنما تفيد بلاغة الجزم لا أبلغيته اه. ولعل لقائلٍ أن يقول أن المنساق إلى الذهن الجزم في جواب الأمر لأنه الأكثر في الأفعال المضارعة الواقعة بعد فعل الأمر وأن الرفع وجعل الجملة دعائية مما قل بعد لأمر. ثم أن الدعاء معنىً على ما يقتضيه السوق معلق على رحمة من في الأرض فلا تكون رحمة من في السماء لمن يرحم من في الأرض مجزوماً بها على الرفع كالجزم بها على الجزم فيضعف أمر الترغيب على ذلك. وجعل الجملة على الرفع مقطوعة عما قبلها لفظاً ومعنىً) على معنى يرحمكم من في السماء مطلقاً. أي إن رحمتم وإن لم ترحموا (يأباه الذوق السليم. والذهن المستقيم. ولا يرضى الفكر النفاد. أن يحمل عليه كلام أفصح من نطق بالضاد. ويزيد ما ذكر وضوحاً إن في صدر الحديث تعليق الحكم بالمشتق وهو كما قالوا يفيد علية مبدأ الاشتقاق فيكون الجملة التي في آخره على رواية الجزم كالمتفرعة على الجملة الأولى. إلا أنه لم يؤت بالفاء لظهور ذلك لا كما قيل أنها كالتأكيد للجملة الأولى ولذا فصلت عنها ولم توصل بها. وقولهم التأسيس خير من التأكيد لا يستدعي حمل كل كلام عليه بل متى اقتضى المقام التأكيد كان هو الخير. فتأمل فإنه دقيق. وبالاعتناء حقيق. ثم أن هذا الحديث على ما نقله الشيخ محمد الزبري حديث حسن عال أخرجه البخاري في تصنيفيه الكنى والأدب المفرد. وأحمد والحميدي في مسنديهما. والبيهقي في الشعب. وأبو داود في سننه. والترمذي. وقال حسن صحيح. وأورده الحاكم في مستدركه وصححه. وذكر الشيخ أيوب في ثبته أن له شواهد عن ثمانية عشر صحابياً وعد أسماءهم. ثم قال العراقي هذا حديث حسن رجاله يحتج بهم في الصحيح انتهى. وقد جمع طرق هذا الحديث جماعة من المتقدمين المتأخربن.
) منهم (ابن الصلاح. والتقي السبكي. والحافظ الذهبي وغيرهم. فبلغت ما بلغت فلا يكاد يشك أحد في صحته.) نعم (ذكره بعضهم مسلسلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. وهو غير صحيح بل الصحيح المشهور أن تسلسله إلى ابن عيينة دون باقي الإسناد ومن سلسله إلى آخره فهو أما مخطئ أو كاذب كما أوضحه السخاوي. ثم أن المسلسل بالأولية غير منحصر فيه. فقد ذكر الصوفي العارف المولى الياس الكوراني في إجازته للشمس الشيخ محمد الكزبري. أن المسلسل بالأولية ثلاثة أحاديث. أحدها حديث عبد الله ابن عمرو بن العاص يعني هذا. وثانيها حديث أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول) من أحب أن يكثر خير بيته فليتوضأ إذا حضر غداه وإذا رفع (رواه ابن ماجة. وثالثها حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم) يجمع الله تعالى العلماء يوم القيامة فيقول إني لم أجعل حكمتي في قلوبكم إلا وأنا أريد بكم الخير اذهبوا إلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم (رواه الإمام أبو حنيفة في مسنده انتهى. لكن الشائع الذي ولع الناس به هو أول الثلاثة وما أنسب تسلسل حديث الرحمة بالأولية وذلك لسبق الرحمة. فعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فيما رواه الديلمي) أول شيء خطه الله في الكتاب الأول أنني أنا الله لا إله إلا أنا سبقت رحمتي غضبي فمن شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فله الجنة (ومن ولع الناس به أن ضمنه في النظم جماعة من المحدثين والشعراء. فمن ذلك قول الحافظ ابن حجر العسقلاني:
إن من يرحم أهل الأرض قد ... جاءنا يرحمه من في السما
فارحم الخلق جميعاً إنما ... يرحم الرحمن منا الرحما
وقول حافظ الوقت الزين العراقي:
إن كنت لا ترحم المسكين إن عدما ... ولا الفقير إذا يشكو لك العدما
فكيف ترجو من الرحمن رحمته ... وإنما يرحم الرحمن من رحما
وقول شيخ الإسلام القاضي زكريا:
من يرحم أهل السفل يرحمه العلي ... فارحم جميع الخلق يرحمك الولي
وقول الإمام العقبي:
الحب فيك مسلسل بالأول ... فامنن ولا تسمع كلام العذل