نام کتاب : تاج المفرق في تحلية علماء المشرق نویسنده : البلوي، خالد جلد : 1 صفحه : 129
فانتهى من إشاعة الفضل، وبسط العدل، وبذل الصفح إلى الحد الذي فات الكمال دفعة واستوفى الخصال جملة، حتى كان ملك الدولة في إسعاد مدتها واحتشاد مواد النعم عندها، وارتفاع حوادث الغير عنها، نذر للدهر قضاه أو أسبوع لعرسه وفاه، إشراق أيام وليال، في قضاء أوطار وآمال، في كنف ملك مقتبل السعد ميمون الطائر، غافل عن الأيام، مظاهر للأنعام، مسرور بما تنافس فيه رعيته، من زخرف دنياها، مقتصر لها من ذلك كله ما جانبها وعطاها آخذ عفوها، قابل يسرها، فلا أمير بعد أبي يحيى ولا خليفة بعد أبي بكر تبنكا في المجد، وانغماسا في النعم، اجتمع الناس على حبه، ولم يدهنوا في طاعته فصفا عيشه، واستراح قلبه، وكان من فرط الشجاعة في غاية بعيدة أحد العجائب ذكاء لب، وصرامة قلب، وتقدما إلى حرب عظيم الأناة، رفيع الهمة، على أخلاق حميدة، ومكارم جميلة، ذكيا يقظا، أديبا لبيبا. حسن الكلام، جيد القريحة، مليح البلاغة، يتصرف فيما يشاء من الخطابة، بديهة وروية ويصوغ قطعا من الشعر مستجادة وقصائد طويلة، في فنون كثيرة، لم يقصر فيها عن الغاية فطمحت إليه النفوس، وتعلقت به القلوب، ونزحت نحوه الهمم قصده الخلق من المغرب ولمشرق، لسعه إحسانه، وعظيم تطوله، ووفور عطائه لمن نئا عنه وقرب منه، فهو في وقته نسيج وحده به ختمت فضلاء أهل بيته فلم يعهد فيهم مثله، ولقد أنشدته رضي الله عنه قصيدة لامية بعد أخرى زائية، كلتاهما من نظمي في مدحه، فلما فرغت منهما قبلت يده وانصرفت إلى منزلي فما وصلت حتى وصل من نعمه، أرضاه الله، من الملابس الحسان والمواهب والإحسان، ما أوجب الشكر بكل لسان، وأغناني مدة عن شكوى الزمان وكذلك أنشدته رضي الله عنه من نظمي أيضا جملة قصائد، في روى واحد على نحو ما كان ألقى إلي واقترح علي، فلما فرغت قال لي: قد أتيت بكل جميل، ونفع فيك ماء زمزم، وماء النيل، ثم أومأ بحاجبه إلى الحاجب، وأمر بإضافة الإحسان، وتنمية الراتب، فقبلت ما أمر به، وقبلت الأرض بين يديه، وقمت أشكر نعمه، وأقمت أنشر الثناء عليه، وما برح قلمي يجول في إقليمه وكلمي يجود بدره بين محاورته وتكليمه، وأنا أريش وأبري، وأقيم وأقعد بنهيي وأمري وأدير المملكة بهزازي نظمي ونثري، حتى عبق الشكر، وطبق الذكر، وكمل لي تصنيف لذة السمع والفكر، فيما أنشأته عن أمير المؤمنين أبي بكر، وهو أدام الله أيامه، وشكر في الخافقين ألويته وأعلامه يعتمد على قلمي ويعتضد بكلمي وينجد كتيبته بكتابتي، ويسعد رعيته برعايتي، ويعد غرائبي من رغائبه، ومناقبي من مناقبه، حتى طمى الإيغال، في الاشتغال، وآل الإكرام إلى الإبرام وعاد الجنى إلى العنى، فرمقت الدنيا بالعين الزاهدة، وآثرت القفول إلى الوالدة، وسئمت من النوى والشتات وأزعجني الجنة تحت أقدام الأمهات. وهمت بالوطن، هيام ابن طالب بالحوض والعطن وحننت إلى تلك البقاع حنينه إلى أثلاث القاع وكلما أخذت في الإزماع صرفت عن تلك الأطماع، حتى فجئت بالوداع. وعزمت عزما إذن للدموع بالانسكاب وللقلوب بالانصداع وقد تهجر نفائس الأعلاق، وتبلى المليحة بالطلاق وحين علم مني أيده الله خلوص النية وتداركي هذا الفرض المتعين قبل اخترام المنية، سلم لي في الوفاء بهذا النذر، ولم يكن ليقبل مني غير ذلك العذر، فأكببت على تقبيل يده متودعا، وأنشدته متفجعا لفراقه متوجعا:
وداع كما ودعت فصل ربيعي ... يفض ضلوعي أو يفيض دموعي
لئن قيل في بعض يفارق بعضه ... فإني قد فارقت منك جميعي
فأوسعت ملء عيابي حباء وأصبحت مركوبا وجنيبة وخباء، وأمطيت صهوة طرف من عتاق الخيل. رائع رائق، قيد الأوابد، مما أنجب الوجيه ولاحق، أشهب كالصباح يسابق الطرف، ويباري الرياح. ويمرح ما بين اختيال وارتياح. وارتجاج وارتباح:
يستوقف اللحظات في خطوات ... بكمال خلقه ورقة حسنه
ذو نخوة شمخت به عن نده ... وشهامة طمحت به عن قرنه
وجعلت أخب وأخذ ولا ألوي على من أجد، وكلما لاح بارق، ارتحت إليه، أو در شارق سلمت من البعد عليه، ذا بدت النجوم توهمت هممه، وإن هطلت الغيوم تذكرت نعمه، لا أسمع الغريبة، إلا قلت من كلماته، ولا أرى العجيبة إلا قلت من فعلاته، أحل الرياض فأحسبها شمائله، وأرد البحار فأظنها نوافله:
نام کتاب : تاج المفرق في تحلية علماء المشرق نویسنده : البلوي، خالد جلد : 1 صفحه : 129