ابن عميرة [1] خاطب بها الكاتب أبا عبد الله بن الأبار جواباً عن رسالة: طارحني حديث مورد جف، وقطين خف، فيالله لأتراب درجوا، وأصحاب عن الأوطان خرجوا، قصت الأجنحة وقيل طيروا، وإنما هو القتل أو الأسر أو تسيروا، فافترقوا أيدي سبا، وانتثروا على الوهاد والربا، ففي كل جانب عويل وزفرة، وبكل صدر غليل وحسرة، ولكل عين عبرة، لا ترقأ من أجلها عبرة داء خامر بلادنا حين أتاها، وما زال بها حتى سجى موتاها وشجا بيومها الأطول كهلها وفتاها، أنذر في القوم بحران أنيجة [2] يوم أثاروا أسدها المهيجة فكانت تلك الحطمة طل الشؤبوب، وباكورة البلاء المصبوب، أثكلتنا إخواناً أبكانا نعيهم، ولله أحوذيهم وألمعيهم ذاك أبو ربيعنا [3] ، وشيخ جميعنا، سعد بشهادة يومه، ولم ير ما يسوءه في أهله وقومه، وبعد ذاك أخذ من الأم [4] بالمخنق، وهي بلنسية ذات الحسن والبهجة والرونق، وما لبث أن أخرس من مسجدها لسان الأذان، وأخرج من جسدها روح الإيمان، فبرح الخفاء، وقيل: على آثار من ذهب العفاء، وانعطفت النوائب مفردة ومركبة كما تعطف الفاء، فأودت الخفة والحصافة، وذهب الجسر والرصافة، ومزقت الحلة والشملة، وأوحشت الحرة [5] والرملة، ونزلت بالجارة وقعة الحرة، وحصلت الكنيسة من جآذرها وظبائها على طول الحسرة، فأين الخمائل ونضرتها، والجداول وخضرتها، والأندية وأرجها، والأودية ومنعرجها، والنواسم وهبوب مبتلها [6] والأصائل وشحوب معتلها [7] دار ضاحكت الشمس بحرها وبحيرتها، وأزهار ترى من أدمع الطل في أعينها ترددها وحيرتها، ثم زحفت كتيبة الكفر بزرقها وشقرها [8] ، حتى أحاطت بجزيرة شقرها فآه لمسقط الرأس هوى نجمه، ولفادح الخطب سرى كلمه، ويا لجنة أجرى الله النهر تحتها، وروضة أجاد أبو إسحاق [9] نعتها وإنما كانت داره التي فيها دب، وعلى أوصاف محاسنها أكب، وفيها أتته منيته كما شاء وأحب، ولم تعدم بعده محبين قشيبهم إليها ساقوه، ودمعهم عليها أراقوه.
وله من رسالة أخرى في المعنى. ثم ردف الخطاب الثاني بقاصمة المتون، وقاضية المنون، ومضرمة نار الشجون، ومذرية ماء الشؤون، وهو الحادث في بلنسية دار النحر، وحاضرة البر والبحر، وطمع أمل السيارة، ومطرح شعاع البهجة والنضارة، أودى الكفر بإيمانها، وأبطل الناقوس صوت أذانها، ودهاها الخطب الذي أنسى الخطوب، وأذاب القلوب، وعلم سهام الأحزان أن تصيب ودمع الأجفان أن يصوب، فيا ثكل الإسلام، وشجواً للصلاة والصيام، يوم الثلاثاء وما يوم الثلاثاء يا ويح الداهية الدهياء وتأخير الإقدام عن موقف العزاء:
أين الصبر وفؤادي أنسيه ... لم يبق لقومه على الرمي سيه
هيهات يحور ما مضى من أنسيه ... [10] من بعد مصاب حل في بلنسيه يا طول هذه الحسرة، ألا جابر لهذه الكسرة، أكل أوقاتنا ساعة العسرة، أخي أين أيامنا الخوالي، وليالينا على التوالي، ولاية عيش نعم بها الوالي، ومسندات أمس [11] يعدها الرواة من العوالي [12] :
بعداً لك يا يوم الثلاثا من صفر ... ما ذنبك عندي بشيء يغتفر
قد أشمت بالإسلام حزب من كفر ... [13] من أين لنا المفر كلا لا مفر كل رزء في هذا الرزء يندرج، وقد اشتدت الأزمة فقل لي متى [1] راجع عن ابن عميرة كتاب الدكتور محمد بنشريفه (الرباط: 1965) وهذه النصوص نقلها صاحب النفح: 490 - 499. [2] أيجه او أنيشه، وكانت عندها موقعة قتل فيها أبو الربيع ابن سالم الكلاعي سنة 634، وقد تقدم ذلك في حرف الهمزة. [3] ابو الربيع سليمان بن موسى بن سالم الكلاعي، انظر الذيل والتكملة 4: 83 وفي الحاشية مصادر أخرى. [4] في الأصلين: الأيام. [5] النفح وبروفنسال: الجرف. [6] في الأصلين: منتهاها. [7] في الأصلين: معناها. [8] جزيرة شقر القريبة من بلنسية، مسقط رأس أبي المطرف وكذلك ابن خفاجة. [9] هو ابن خفاجة. [10] قد أبقيت هذين السطرين كما وردا في النسخة ع، على أنهما رجز، وفي الشطر الأول بعض خلل طفيف، وقد وردا عند بروفنسال في ردج الكلام. [11] بروفنسال: أنس، وهي رواية جيدة أيضاً. [12] في الأصلين وبروفنسال: الغوالي، وإنما العوالي من الأحاديث المسندة، والعبارة كلها ناظرة غلى مصطلح الحديث. [13] هذان السطران يمكن ادراجهما في نطاق الكلام المسجوع ولكن النسخة ع أوردتها في صورة رجز، وذلك شيء لا بأس به.