الذي تركها هو عليه، ذلك أنه لما تولى "يزيد بن المهلب بن أبي صفرة" على خراسان -ولاه عليها الخليفة سليمان ابن عبد الملك سنة "97هـ"- وجه همه إلى فتح "جرجان" و"طبرستان"ن ولم يكن المسلمون قد وطأوا أيهما من قبل، وذلك حتى يحقق فتحا يغبط سليمان كما كانت نجاحات "قتيبة" تغبط الوليد. ولقد استطاع "يزيد" أن يفتح "جرجان" بالفعل صلحا، ثم توجه إلى "طبرستان"، ولكنه هناك، فنقض أهل "جرجان" عهدهم، فعاد وحاربهم وفتحها هذه المرة عنوة[1].
ولقد ظل الجهاد والاستعداد للغزو قائما في هذا الجانب من العالم إلى نهاية حكم بني أمية، ومما يلاحظ في هذا الميدان أن الترك الذين ظلوا ينزلون خارج دائرة سلطان المسلمين من بلاد ما وراء النهر كانوا -بعد فتوحات قتيبة بن مسلم- لا ينفكون يهجمون على المناطق التي دخلت في سلطان المسلمين، ويحرضون أهلها على الثورة والعصيان، فكان المسلمون يقومون بإخضاعهم وإعادة البلاد إلى الطاعة[2].
ولا شك أن هذا الميدان كان من أشد الميادين قتالا، ولم يكن دار حرب أشد من بلاد الترك، ولكنها تحولت بعد الجهود المتوالية إلى دار إسلام، وأصبحت في فترة تالية كعبة العلم والعلماء، ونشأت فيها مراكز علمية وحضارية مثل: بخارى، وبلخ، وسمرقند، ونيسابور، وهراة، ومرو، والري، وجرجان، وسرخس، وطبرستان، وغيرها. وخرجت هذه المدن عددا هائلا من العلماء استضاءت بهم الأمة، وملأت أسماؤهم سمع الدنيا وبصرها. واليوم تتوزع هذه البلاد بين إيران وأفغانستان. أما الجزء الأكبر منها فيقع في الجمهوريات الإسلامية الخمسة في آسيا الوسطى فازاخستان، وأوزبكستان، وتركمانستان، وطاجكستان، وقيرغيزيا[3]. [1] تفاصيل الأحداث في تاريخ الطبري "6/ 541-544". [2] راجع تفاصيل معارك ما بعد قتيبة بن مسلم إلى أواخر عصر بني أمية في ميدان "ما وراء النهر": تاريخ الطبري "6/ 605، 607، 7/ 8، 14، 65، 71، 113، 114، 176، 192" وفتوح البلدان للبلاذري، ص "301، 519، 525، 527". تاريخ اليعقوبي "2/ 302، 524". [3] من أجل معرفة المزيد عن بلاد خراسان وما وراء النهر في العصر الحاضر انظر: كتاب "حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة" للدكتور جميل عبد الله محمد المصري "ط مكتبة العبيكان -الرياض 1996م".