نام کتاب : تاريخ ابن خلدون نویسنده : ابن خلدون جلد : 1 صفحه : 548
الصّنائع والتّعليم فإنّ لهما آثارا ترجع إلى النّفس كما قدّمناه. وكذا أهل المشرق لمّا كانوا في التّعليم والصّنائع أرسخ رتبة وأعلى قدما وكان أهل المغرب أقرب إلى البداوة لما قدّمناه في الفصل قبل هذا ظنّ المغفّلون في بادئ الرّأي أنّه لكمال في حقيقة الإنسانيّة اختصّوا به عن أهل المغرب وليس ذلك بصحيح فتفهّمه والله يزيد في الخلق ما يشاء وهو إله السّماوات والأرض.
الفصل الثالث في ان العلوم إنما تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة
والسّبب في ذلك أنّ تعليم العلم كما قدّمناه من جملة الصّنائع. وقد كنّا قدّمنا أنّ الصّنائع إنّما تكثر في الأمصار. وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلّة والحضارة والتّرف تكون نسبة الصّنائع في الجودة والكثرة لأنّه أمر زائد على المعاش. فمتى فضلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التّصرّف في خاصيّة الإنسان وهي العلوم والصّنائع. ومن تشوّف بفطرته إلى العلم ممّن نشأ في القرى والأمصار غير المتمدّنة فلا يجد فيها التّعليم الّذي هو صناعيّ لفقدان الصّنائع في أهل البدو. كما قدّمناه ولا بدّ له من الرّحلة في طلبه إلى الأمصار المستبحرة شأن الصّنائع كلّها. واعتبر ما قرّرناه بحال بغداد وقرطبة والقيروان والبصرة والكوفة لمّا كثر عمرانها صدر الإسلام واستوت فيها الحضارة، كيف زخرت فيها بحار العلم وتفنّنوا في اصطلاحات التّعليم وأصناف العلوم واستنباط المسائل والفنون حتّى أربوا على المتقدّمين وفاتوا المتأخّرين. ولمّا تناقص عمرانها وابذعرّ سكّانها انطوى ذلك البساط بما عليه جملة، وفقد العلم بها والتّعليم، وانتقل إلى غيرها من أمصار الإسلام. ونحن لهذا العهد نرى أنّ العلم والتّعليم إنّما هو بالقاهرة من بلاد مصر لما أنّ عمرانها مستبحر وحضارتها مستحكمة منذ آلاف من السّنين، فاستحكمت فيها الصّنائع وتفنّنت ومن جملتها
نام کتاب : تاريخ ابن خلدون نویسنده : ابن خلدون جلد : 1 صفحه : 548