«أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم؟» . فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: «نعم، والذي بعثك بالحق لنمنعنّك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن أهل للحروب وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر» [1] .
وهكذا تمت بيعة العقبة الكبري لتفتح أمام الإسلام آفاقا بعيدة، ففي الوقت الذي ظنت فيه قريش أنها سدت في وجه الرسول صلّى الله عليه وسلم كل السبل، جاءت بشائر النصر من يثرب، وهيأ الله لنبيه أنصارا وبلدا آمنا، وهيأ ليثرب التي كانت غاية ما يطمح إليه أهلها أن تكون مقرّا لمملكة صغيرة لتكون مهاجرا لنبيه ومنطلقا لدينه وعاصمة لدولة الإسلام الكبري، ومهدا لحضارة إسلامية عالمية، وصدق الله إذ يقول: حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [يوسف: 110] .
* صدى الدعوة في خيبر:
ما قيل عن يهود يثرب من حيث تاريخ مجيئهم إلى الحجاز، ومن حيث أصلهم، يقال عن يهود خيبر، غير أن يهود خيبر يختلف موقفهم عن يهود يثرب من الدعوة الإسلامية، فإذا كان يهود خيبر قد علموا بأمر الدعوة منذ البداية، فهذا شيء طبيعي، وإذا كانوا يتحدثون عنها ويتناقلون أخبارها وتطورها، فهذا شيء طبيعي كذلك، فالدعوة الإسلامية ليست حدثا عاديا، وإنما منذ أن ظهر أمرها وهي حديث الجزيرة العربية كلها، ولا همّ للناس إلا أن يعرفوا ماذا فعل محمد صلّى الله عليه وسلم، وماذا فعلت قريش معه؟ هذا كله شيء طبيعي ومنتظر من يهود خيبر، غير أن المصادر التي بين أيدينا لا تحدثنا عن موقف محدد ليهود خيبر من الدعوة، ولا ندري سببا لسكوت المصادر عنهم في المرحلة المكية، فهل طغى موقف يهود يثرب واهتمت به المصادر وأهملت أمر خيبر، أم أن يهود خيبر أنفسهم قد تركوا أمر التصدي للدعوة ليهود المدينة ووقفوا هم على الحياد؟ يبدو أن هذا هو الأظهر؛ لأننا لم نسمع أن خيبر قد أرسلت أحدا إلى مكة، لتحريض أهلها على النبي صلّى الله عليه وسلم كما فعل ذلك يهود المدينة كثيرا ويبدو أن موقف يهود خيبر الحيادي هذا قد استمر حتى بعد الهجرة؛ فرغم ما حدث بين النبي صلّى الله عليه وسلم وبين يهود المدينة، وبصفة خاصة، [1] انظر تفاصيل بيعة العقبة الثانية في: ابن هشام- السابق نفسه (47) .