حتى انزعجوا ودب الحسد إلى قلوبهم بل أكلها أكلا، وتحرك فيهم الخلق والطباع القديمة الكامنة، من المكر والخديعة والخبث، وأظهروا التعالي والغطرسة والادعاء بالتفوق على سائر البشر، وآيات القرآن الكريم صريحة في أن عدم إيمان اليهود برسالة النبي صلّى الله عليه وسلم مع علمهم بصدقه، يرجع إلى الحسد والبغي. ويكفي أن نشير إلى قوله تعالى: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ، فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ [البقرة: 89، 90] .
بل لم يكتفوا بمجرد عدم الإيمان، بل دفعهم الحسد والبغي وعماء البصائر إلى التورط الفاضح والمخزي في تفضيل الوثنية على الإسلام، فقد أفتوا أهل مكة بأن وثنيتهم أفضل من الإسلام. فقد روى ابن كثير في تفسيره مرفوعا إلى عكرمة قال: «جاء حييّ بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة، فقالوا لهم- أي: أهل مكة-: أنتم أهل الكتاب وأهل العلم، فأخبرونا عنا وعن محمد. فقالوا: ما أنتم وما محمد؟ فقالوا:
نحن نصل الأرحام وننحر الكوماء ونسقي الماء على اللبن، ونفك العاني ونسقي الحجيج، ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار، فنحن خير أم هو؟ فقالوا: أنتم خير وأهدى سبيلا. فأنزل الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً [1] [النساء: 51، 52] .
إذن موقف اليهود من الدعوة كان موقف الحسد والبغي والرفض، وتحريض قريش على الرسول صلّى الله عليه وسلم، وتفضيل وثنيتهم على ما جاء به من التوحيد، والأكثر من ذلك أنهم كانوا يغرونهم بتوجيه أسئلة للنبي صلّى الله عليه وسلم، يصوغونها لهم هم أنفسهم، ظنّا منهم- لعنهم الله- بأنها ستعجزه وتحرجه، كما حدث منهم عندما ذهب إليهم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط، موفدين من قريش لسؤالهم عن النبي ورسالته [2] . هذا هو موقف اليهود من الدعوة وصداها لديهم، بغض وكفر وكيد وتحريض.
* اثر اليهود في تطور موقف عرب يثرب من الدعوة:
لقد هيأت المقادير ليثرب حظّا عظيما وخيرا وفيرا لم تهيئه لبلد آخر من بلاد [1] تفسير ابن كثير، (طبعة الحلبي، القاهرة) (1/ 511، 513) . [2] ابن هشام- المصدر نفسه (1/ 320) .