العرب، حيث أكرمها الله وهداها إلى الإيمان به ولنصرة رسوله وإعزاز دينه وإعلاء كلمته. ولا شك أن جوار اليهود للعرب في يثرب لم يكن شرّا كله، بل كان فيه بعض الخير، فمن كثرة حديث اليهود عن الأديان والكتب المقدسة، ومن تعييرهم العرب بوثنيتهم وشركهم، فقد نبهوهم إلى هذه القضايا الروحية، وأثاروا فيهم روح التطلع والتشوق إلى ظهور النبي الذي طالما حدثوهم عنه، وأوضح دليل على ذلك استجابة عرب يثرب لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلم بل ومخاطرتهم من أجلها، منذ اتصلوا به واتصل بهم مباشرة استجابة لم يلقها عند حي آخر من أحياء العرب، على كثرة ما كان يلقى من وفودهم ويعرض نفسه عليهم في المواسم وغيرها. روى ابن اسحاق قال:
«حدثني عاصم بن عمر بن قتادة- عن رجال من قومه- قالوا: إن مما دعانا إلى الإسلام- مع رحمة الله تعالى وهداه- لما كنا نسمع من رجال يهود، كنا أهل شرك وأصحاب أوثان، وكانوا أهل كتاب عندهم علم ليس لنا، وكانت لا تزال بيننا وبينهم شرور، فإذا نلنا منهم بعض ما يكرهون قالوا لنا: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فكنا كثيرا ما نسمع منهم ذلك، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم أجبناه حين دعانا إلى الله تعالى، وعرفنا ما كانوا يتوعدوننا به فبادرناهم إليه، فامنا به وكفروا به ففينا وفيهم نزلت هذه الآية من سورة البقرة: وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [البقرة: 89] [1] .
ثم كان لليهود أثر آخر- غير الأثر الروحي- في استجابة عرب يثرب لدعوة النبي صلّى الله عليه وسلم، وذلك أن اليهود لما غلبوا على أمرهم في يثرب وتراجعت مكانتهم عما كانت عليه، وأصبحت كلمة العرب هي النافذة، لجأ اليهود إلى أسلوب الدس والوقيعة وبث الفرقة بين الأوس والخزرج لإضعافهم جميعا، وقد نجحوا في ذلك وكان دورهم في حرب بعاث واضحا، تلك الحرب التي كادت أن تقضي على الأوس والخزرج جميعا لتعود سيطرة اليهود على يثرب دون منازع، وهنا تنبه الأوس والخزرج جميعا للخطر الماحق، وسرى بينهم اتجاه لتوحيد صفوفهم وتناسي خلافاتهم، لدرجة أنهم فكروا في تنصيب ملك عليهم ليوحدهم ضد خطر اليهود، وقد رشحوا فعلا عبد الله بن أبيّ بن سلول لهذا المنصب وإذا كانت هذه الخطوة لم تتم فذلك لأن الله تعالى قد أعدهم لشيء أعظم وأفضل مما كانوا يفكرون فيه، فهم [1] المصدر السابق نفسه (1/ 231) .