أمريكا، فلم يخرج الاتحاد السوفيتي من أفغانستان ذليلا محطما فقط، بل خرج من الدنيا كلها وحدث الزلزال الذي أودى بالبنيان كله، فقد زال الاتحاد السوفيتي وترك الساحة العالمية لأمريكا تمرح وتعربد فيها وحدها. وحديثنا ليس عن هذا ولكن عن المجاهدين الذين كانوا قرة عين أمريكا، والذين ربتهم ودربتهم مخابراتها ذات الخبرة الكبيرة في التدريب على الخراب والدمار. فماذا حدث لهم بعد أن حققوا لها ما كانت تصبو إليه في أفغانستان؟ يبدو أن أمريكا قد أعدت للأمر عدته؛ كعادتها في عدم ترك أي شيء للصدفة والارتجال، ولا شك أن السياسة الغربية كلها لا تعرف الارتجال، بل تقوم على تخطيط سليم، يقوم به خبراء متمرسون في كل مجال من مجالات الحياة؛ لذلك خططت لمصير المجاهدين أثناء جهادهم في أفغانستان حتى إذا انتهت مهمتهم هناك بدأت تستثمرهم في مهمة أخرى؛ مهمة أيضا بالنسبة لها وهي إرباك العالم الإسلامي وإغراقه في بحور من الفتن والإرهاب، فقد كان تحالفها مع العالم الإسلامي أثناء الحرب الباردة ضد العالم الشيوعي تحالف ضرورة، تماما كتحالفها مع العالم الشيوعي نفسه أثناء الحرب العالمية الثانية- ضرورة للوقوف في وجه النازية- وبعد أن انتهت الحرب الساخنة بدأ العداء مع العالم الشيوعي فيما يسمى بالحرب الباردة، والذي جعل العالم الغربي يتحالف مع العالم الإسلامي ضده، فلما انتهت الحرب الباردة وسقط العالم الشيوعي وهزم بدون حرب، تحول العالم الإسلامي من حليف إلى عدو؛ بل العدو رقم واحد للغرب عامة وأمريكا خاصة، ومن ثم أخذت أمريكا تعيد تصدير المجاهدين الأفغان إلى أوطانهم الأصلية لكن ليس باسم المجاهدين وإنما باسم الإرهابيين؛ لأنها شحنتهم بالكراهية الشديدة والعداء لأوطانهم- وآلتها الإعلامية في ذلك رهيبة- فلم يصمد أمامها الزعماء فكيف يصمد أمامها ذلك الشاب الغر، عاد المجاهدون الأفغان- سابقا- إلى أوطانهم كارهين كل شيء متهمين أوطانهم بالكفر والجاهلية شاهرين أسلحتهم مشيعين الخراب والدمار والقتل بطريقه عشوائية والنماذج على ذلك كثيرة- في الجزائر ومصر وغيرها- ولا زال المسلسل مستمرّا.
أمريكا إذن هي الصانعة الأولى لهذا الإرهاب الأسود الذي يعيث فسادا في كثير من البلاد العربية والإسلامية، وفي الوقت نفسه تلصقه بالإسلام، وهي التي صنعته، هي التي تأوي عتاة الإرهابيين في بلادها وتوفر لهم الحماية [1] . [1] د. مصطفي رمضان، مرجع سابق (ص 83) .