حبّا للتعليم منذ عهد عبد الرحمن الداخل، فقد كان هو نفسه شاعرا وأديبا وفقيها، وفي عهد الأمير محمد بن عبد الرحمن (238- 273 هـ/ 852- 886 م) بدأ المؤرخون يتحدثون عن المكتبة الملكية كواحدة من خيرة مكتبات قرطبة، واشتهر عبد الرحمن الناصر نفسه بحب الكتب شهرة وصلت إلى بيزنطة وحين أراد الإمبراطور قسطنطين السابع أن يتقرب إلى الناصر أهداه بعض الكتب، منها كتاب ديسقوريدس في الطب في مجلد رائع كتب بحروف مذهبة ... وفي ذلك الوقت بدأ اثنان من أبناء الناصر- وهما الحكم ومحمد- دراستهما تحت إشراف مؤدبين من أسبانيا والشرق، واستيقظت هوايتهما للكتب في قوة، حتى أن مكتبة والدهما لم تعد تشبع نهمهما، وتنافس كلاهما، أيهما يستطيع أن يسبق الآخر في تكوين مكتبة أدق اختيارا وأكثر عددا؟ وبعد فترة توفي الأمير محمد وورث أخوه الحكم مكتبته، وجمع الثلاث في واحدة، وأصبحت هذه مكتبة القصر ... وكان يعمل فيها دون توقف أمهر المجلدين في أسبانيا، إلى جانب آخرين جيء بهم من صقلية وبغداد، ومعهم جمهرة من الفنانين، رسامين ومزوقين ومنمقين، يزخرفون الكتب بالصور الجميلة، بعد أن نسخها أدق الخطاطين لتقديمها إلى لجنة من كبار العلماء، تقوم بمعارضتها وتصحيحها، وتدفع لهم الدولة مرتباتهم في سخاء [1] .
إن هذا الولع الملكي بالكتب انتقل إلى الشعب، حتى لم يكد يخلو بيت من مكتبة، وهناك أسر كبيرة جمعت كميات هائلة من الكتب وكونت مكتبات كبيرة، مثل أسرة ابن فطيس وغيرهم.
ولا يتسع المكان للحديث عن بقية مكتبات قرطبة فضلا عن غيرها من مكتبات المدن الأندلسية الآخرى، مثل مكتبات إشبيلية والمرية ومالقة وبطليوس وطليطلة وسرقسطة وبلنسية.. إلخ ولا يتسع الحديث كذلك عن المكتبات التي كان الأثرياء يوقفونها على الفقراء من طلبة العلم، فالكتب التي تجمعت في المكتبات الأندلسية، سواء التي ألفها علماء الأندلس أنفسهم، أو التي جاءت من المشرق الإسلامي أعدادها تفوق الحصر، فكل عالم جاء من الأندلس إلى المشرق ودرس وتعلم وعاد إلى الأندلس عاد ومعه كتب، بل رأينا فيما سبق عالما واحدا وهو سلمة بن سعيد جاء من المشرق إلى الأندلس بثمانية عشر حملا من الكتب، والمقصود بالحمل [1] المرجع السابق (ص 190، 191) .