أنه لا تبدأ الطبقة الثانية إلا إذا انتهت الطبقة الأولى؛ لأنه ليس هناك حد زمني فاصل بين هذه الطبقات، فالعلم متصل، وحلقاته ممتدة ومستمرة، وأجيال العلماء متداخلة، وربما يكون الواحد منهم تلميذا وأستاذا في نفس الوقت، بل المقصود من هذا التقسيم، تمييز رجال كل مرحلة عن التي سبقتها والتي تلتها. وكلما امتد الزمن اتسعت دائرة العلم وزاد عدد العلماء وتلاميذهم؛ ولذلك سنجد في هذه الطبقة الثانية، حشدا كبيرا من علماء المغازي والسير ذوي المكانة العلمية الرفيعة، خاصة في مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلم.
ويكفي أن نلقي نظرة على سيرة ابن إسحاق- الذي سنخصه بحديث مفصل في هذا الكتاب لتميزه وإمامته في ميدان السيرة النبوية- والتي جاءتنا عن طريق عبد الملك بن هشام برواية زياد بن عبد الله البكائي، لنعرف مدى الحجم الذي وصل إليه عدد العلماء، وكيف كان اهتمام هذا الجيل بسيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم؛ فابن إسحاق يروي مباشرة بطريق المشافهة، عن أكثر من مائة راو من علماء المدينة وكلهم يروي عنه بقوله: حدثني فلان، أو أخبرني فلان، أو سألت فلانا فأخبرني، فبالإضافة إلى أستاذه الأكبر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، نجده يروي عن عدد كبير من العلماء، كثيرون منهم من أسرة واحدة، مثل آل الزبير ومواليهم، فهو يروي عن هشام بن عروة بن الزبير، وعن يحيى بن عروة بن الزبير، وعن عمر بن عبد الله بن الزبير، وعن محمد بن جعفر بن الزبير، وعن يحيى بن عباد بن عبد الله ابن الزبير، وعن يزيد بن رومان مولى عروة بن الزبير، وغيره من مواليهم، ورواية ابن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه، أو عن الزهري عن عروة بن الزبير، لها قيمتها الكبرى من ناحية التوثيق العلمي؛ فهي مرفوعة في أغلب الأحوال إلى السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وإذا رفعت الرواية عن الثقات، عن سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلم، إلى السيدة عائشة؛ كانت هي الصدق بعينه، كذلك يروي ابن إسحاق عن نافع مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، وعن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، وعن عبد الله بن أبي بكر بن حزم الأنصاري، وعن أبيه إسحاق بن يسار. رجال هذه الطبقة- الثانية- من علماء المغازي والسير هم أساتذة محمد بن إسحاق وشيوخه المباشرون، ولكثرة عددهم فمن الصعب الحديث عنهم كلهم في حيز هذا الكتيب، ولذلك سنقصر الحديث على أشهرهم وأكثرهم تأثيرا في إثراء حركة التأليف في ميدان المغازي والسير، ويأتي على رأس القائمة: