ذلك فإن معاوية لم ييأس، بل انتظر إلى أن لقي عمر بن الخطاب ربه، ففاتح الخليفة الثالث عثمان بن عفان، الذي عارض هو بدوره متأثرا بمعارضة عمر بن الخطاب، إلا أن معاوية نجح في النهاية بإقناعه وظفر بموافقته وبدأ على الفور في إنشاء قوة بحرية هائلة ظهر أثرها واضحا بعد سنوات قلائل من البداية، في غزوة جزيرة قبرص والاستيلاء عليها وفي الانتصار على أساطيل الروم، في أول وأكبر معركة بحرية دارت بينهم وبين المسلمين على شواطئ مصر الغربية، وهي معركة ذات الصواري، التي غيرت تاريخ البحر المتوسط، وجعلته بحر المسلمين، وكان قائد المعركة هو أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح- كما مر ذكره.
ومعاوية عند ما نهض بهذا المشروع العظيم، الذي يرجع الفضل إليه وحده في قيامه كان يعوّل في المقام الأول على أهل مصر، وعلى دور صناعة السفن في مصر، ولم يجد أية صعوبة في تعاون المصريين معه؛ لأن الشام ومصر كانتا ولايتين من ولايات الدولة الإسلامية الواحدة من ناحية، ومن ناحية ثانية فقد كان التفاهم قائما على أفضل ما يكون بينه وبين والي مصر، عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وكان كلا الرجلين يدرك تمام الإدراك أهمية الارتباط الأمني الوثيق بين الشام ومصر. ولم يقتصر دور المصريين على إمداد الأسطول الشامي بالسفن التي يحتاجها، والتي يتم تصنيعها على أرض مصر، وفي دور صناعتها، بل إن العمال المهرة المصريين ذهبوا إلى هناك إلى الموانئ الشامية التي أنشأها معاوية الذي أصبح أمير المؤمنين، والقرار بيده وحده، فقد أمر بإنشاء دار صناعة في عكا على أثر غارة بيزنطية ضخمة على شواطئ الشام سنة (49 هـ/ 669 م) .
وتدل أوراق البردي المصرية، على أن العمال المصريين قد أسهموا إسهاما كبيرا في بناء السفن في ميناء عكا، وكانوا أيضا من إقليم كوم شقاو [1] الذي مر ذكره كثيرا، ولقد توسع معاوية في صناعة السفن في الموانئ السورية، مثل صور وصيدا واللاذقية وطرطوس، اعتمادا على الأيدي المصرية العاملة في هذا الميدان؛ لأنه كان يفكر في مشروع كبير يحتاج إلى أعداد هائلة من السفن الحربية ذات الأحجام المختلفة، ذلك المشروع الذي كان معاوية يفكر فيه هو غزوة مدينة القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية، العدو الأول والأكبر والأخطر للمسلمين في ذلك الوقت، فقد كان معاوية [1] تاريخ البحرية المصرية- مرجع سابق (ص 357) .