من منهجه أن يحمل الناس على اعتناق دينه بالقوة؛ لما كان أسهل عليه من هذا الموقف بالذات؛ لأن الجيش الفار من الميدان- وهو جيش هرقل- لن يصمد طويلا أمام جيش المسلمين، بل إن هزيمته ستكون محققة.
ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلم اعتبر انسحاب جيوش الروم من ميدان المعركة كافيا كدليل على ميلهم إلى السلام- وإن كان انسحابهم خوفا من الهزيمة- لذلك لم يلاحقهم، ولم يرم إلى القضاء عليهم؛ لأن هذا ليس هدفه.
أليس هذا دليلا كافيا على أن أصل العلاقات الدولية في الإسلام هو السلام؟!.
وإليك دليلا آخر على أنه ليس من أهداف الإسلام إجبار الآخرين على اعتناقه بالقوة؛ فبعد أن علم الرسول بانسحاب الروم إلى داخل الشام، وقرر عدم ملاحقتهم، عسكر في منطقة تبوك عدة أيام عقد خلالها عدة معاهدات، مع عدد من أمراء المنطقة، ورؤساء المجموعات الصغيرة فيها، الذين لم يبدؤوا المسلمين بالعداء، أمنهم هم وأتباعهم على عقائدهم وأرواحهم وأموالهم. وهاك نموذجا على ذلك وهو عهد الأمان الذي أعطاه النبي صلّى الله عليه وسلم ليحنّة بن رؤبة صاحب أيلة، نصه كالآتي: «بسم الله الرحمن الرحيم. هذه أمنة من الله، ومحمد رسول الله، ليحنة ابن رؤبة، وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله وذمة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام، أهل اليمن، وأهل البحر؛ فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه وإنه طيب لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه، ولا طريقا يريدونه من بر أو بحر» [1] قل لي بربك: هل الذي يصنع هذا الصنيع، مع هذه المجموعات الصغيرة الضعيفة، ويعطيها الأمان والحرية، ويبسط عليها حمايته؛ يقال عنه: إنه متعطش للدماء؟! وهل كان صعبا على النبي وهو يقود هذا الجيش الضخم، والذي خرج ليواجه به أكبر جيوش العالم وقتئذ- وهو جيش الروم- الذي انسحب من الميدان جبنا وهلعا، هل كان صعبا عليه أن يجبر يحنّة وأهل أيلة وأمثالهم على اعتناق الإسلام، لو كان ذلك هدفه؟! وهل كان في مقدورهم أن يقاوموا أو يمتنعوا؟ لكنها دعاوى الزور والبهتان من أعداء الإسلام الذين لا يبرحون أن يرددوا تلك التفاهات، ويدعون أن الإسلام دين حرب انتشر بالسيف. فالنبي صلّى الله عليه وسلم لم يقاتل أهل أيلة، ولم يهددهم أو يرهبهم، بل أمنهم على [1] انظر: ابن هشام- القسم الثاني (ص 525) - ومحمد حميد الله- مجموعة الوثائق السياسية (ص 89) ، ود. هيكل- حياة محمد (ص 459) .