ولم يكن ممكنا السكوت عليها، بل كان لا بد من إشعارهم بهيبة الإسلام وأنه لا يستباح حماه. فقد قتل في هذه المناطق خمسة عشر رجلا من الصحابة كانوا يدعون إلى الإسلام، كما قتل الحارث بن عمير، مبعوث النبي صلّى الله عليه وسلم إلى أمير بصرى الخاضع لسلطان الروم، وكانت هذه كلها جرائم خطيرة استوجبت العقاب [1] . مما جعل النبي يجهز سرية مؤتة لتحقيق هذا الهدف، فماذا حدث؟
لقد توجهت الحملة إلى وجهتها، لأداء مهمتها المحدودة، وعلى رأسها قواد ثلاثة عقد لهم النبي بالتتابع، وهم زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن راوحة. وما أن وصلت السريّة إلى مناطق الحدود- وفي حسبانها أنها ستواجه بعض القبائل العربية- حتي وجدت أن هرقل قد حشد لها عشرات الألوف من جند الروم.
وفوجئ قواد الحملة المسلمون بهذا الموقف الذي لم يكن في الحسبان، وعقدوا مجلسا حربيّا لتدارس الموقف على ضوء هذا الواقع، وبرزت عدة اقتراحات؛ منها أن يعودوا إلى المدينة ليخبروا النبي صلّى الله عليه وسلم ليقرر ما يراه ومنها أن يعسكروا في موقعهم، ويطلبوا من الرسول مددا. وأخيرا تحدث أحد قواد الحملة وهو عبد الله بن رواحة، فقال:
«يا قوم؛ نحن لا نقاتل بقوة ولا بكثرة، ولكن بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، وما نريد إلا إحدى الحسنيين، الظهور أو الشهادة» سرت كلمات ابن رواحة في نفوس المسلمين وارتفعت روحهم المعنوية وصمموا على القتال.
ودارت المعركة- قرب مؤتة- بين الثلاثة آلاف مسلم وبين قوات الروم الضخمة ومن يدور في فلكها من القبائل العربية، وبطبيعة الحال لم تكن القوتان متكافئتين، وكانت معركة ضارية استشهد فيها عدد من جند الله وقوادهم الثلاثة. وهنا كان من الضروري تغيير خطة المسلمين لمواجهة هذا الموقف الخطير. وتسلم القيادة عبقري الحرب- سيف الله- خالد بن الوليد، الذي قدر الموقف العسكري تقديرا دقيقا يدل على بعد نظره العسكري واعتقد أن واجبه كقائد للمسلمين يحتم عليه أن يضع خطة للانسحاب، وقد نجح ابن الوليد نجاحا باهرا في إنقاذ من بقي من جيش المسلمين وهذا الموضوع وحده يحتاج إلى بحث خاص، والمهم هنا هو العبرة والدرس الذي استفاده المسلمون من موقعة مؤتة، فأكثر ما كان يتميز به أسلافنا العظام أنهم كانوا يستفيدون من كل موقف، ولا يتركون حادثة تمر دون أن يكون لهم عندها وقفة [1] د. هيكل- حياة محمد (ص 404، 405) .