مأمورين بالقبض عليه، وأخذه بالقوة ليحاكم أمام سيدهم؟ هل اعتقلهما أو أمر بقتلهما؟ أبدا، لم يحدث شيء من هذا، وإنما رد عليهما ردّا جميلا، وفي هدوء أخبرهما أن ملكهم هذا المتجبر قد هلك، وعلى يد ابنه بالذات حيث ثار عليه وقتله، وكلفهما بأن يحملا منه رسالة إلى باذان يدعوه فيها إلى الإسلام، فإن هو قبل وأسلم، فإن النبي صلّى الله عليه وسلم سيقره على عمله كحاكم لليمن باسم الإسلام، وقد شرح الله صدر باذان للإسلام فأسلم وأصبح يحكم اليمن باسم النبي صلّى الله عليه وسلم. أرأيت كيف عامل النبي مبعوثي عدوه وعدو الله كسرى. فأعطاهما الأمان ولم يمسهما بسوء.
وإليك مثلا آخر، يعتبر من أروع الأمثلة على ذلك. وهو صنيع النبي صلّى الله عليه وسلم مع مبعوثي مسيلمة الكذاب، اللذين جاآه يحملان إليه مزاعم مسيلمة بأنه أشرك معه في الرسالة. فمع خطورة القضية التي جاآه من أجلها، ومع شذوذ مطلبهما إلا أن النبي صلّى الله عليه وسلم لم يمسهما بسوء؛ لأنهما رسولان. وكان رسولا مسيلمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، هما ابن النواجة، وابن آثال، وكان معهما رسالة من مسيلمة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم، نصها كالآتي: «من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك. أما بعد؛ فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم لا يعدلون» [1] فلما سمع الرسول صلّى الله عليه وسلم نص الرسالة قال: «فما تقولان أنتما؟» قالا: نقول كما قال. قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما» [2] . ثم كتب إلى مسيلمة رسالة هذا نصها: «من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، السلام على من اتبع الهدى. أما بعد؛ فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين» [3] هذه هي معاملة النبي صلّى الله عليه وسلم لمبعوثي الأعداء وحاملي رسائلهم؛ احترام وصيانة وأمن لأرواحهم، مهما كان من خطورة الموقف الذي يتباحثون من أجله، ومهما بدا منهم من الوقاحة والبذاءة.
بل أكثر من ذلك؛ فإن الرسول صلّى الله عليه وسلم كان في كثير من الأحيان يتبسط مع الرسل والمبعوثين، ويهداهم بعض الهدايا، ويخلع عليهم بعض الخلع، وهذا من فرط سماحته وكرمه صلّى الله عليه وسلم. [1] ابن هشام- السيرة النبوية- القسم الثاني (ص 600) . [2] ابن هشام- السيرة النبوية- القسم الثاني (ص 600) . [3] ابن هشام- المصدر السابق (ص 601) .