ومن الجدير بالذكر أن المسلمين عند ما فكروا في بدء التاريخ الإسلامي في عهد عمر بن الخطاب اختاروا الهجرة من بين المقترحات الآخرى، هذا يدل على أنهم نظروا إلى بدء قيام الدولة الإسلامية [1] أو تمام الدين والدولة في الدعوة الإسلامية ولقد كان اختيار الهجرة للتقويم اختيارا موفقا؛ فهي في الحق استهلال لتاريخ جديد وإعلان لقيام دولة جديدة، ولو اختير مولد الرسول- مثلا لهذا التقويم- كما حدث بالنسبة لميلاد المسيح عليه السّلام في التقويم الميلادي، لما كان في الاستهلال بالمولد غير دلالة عاطفية فحسب، في حين أننا نجد في الهجرة وما ترتب عليها من نتائج تشخيصا إيجابيّا أقوى دلالة؛ لأنه يبرز الكيان الفكري والعملي للدعوة الإسلامية في صورة حية واقعية ملموسة ومحسوسة، والهجرة من هذه الوجهة أقوى دلالة من بدء الدعوة ونزول الوحي أيضا؛ فإن الدعوة قد بدأت بين الأقربين ثم أخذ نطاقها يتسع على مراحل، في حين أن الهجرة كانت حدثا هامّا قامت على أثرها دولة شعرت بها بلاد العرب من بعد [2] .
كانت الهجرة إذن هي التي هيأت الظروف لقيام الدولة الإسلامية التي قامت عالمية منذ البداية [3] ؛ عالمية في وثائق تأسيسها، وفي أصولها ومبادئها، وكذلك في عناصر تركيبها السكاني؛ فكما ضمت العرب من قريش ويثرب واليهود ضمت سلمان الفارسي وصهيبا الرومي وبلالا الحبشي [4] ، ولعل هؤلاء كانوا رموزا لأممهم وشعوبهم التي سيدخل معظمها ضمن دولة الإسلام بعد سنوات قلائل.
وقد أعفى الإسلام في بناء دولته- الكبرى- على روابط العنصرية والقومية فأهدرها؛ توسعا في ربط الإنسانية، وأهدر الإخاء القبلي والإقليمي، وأقام مقامه الإخاء البشري [5] . [1] د. محمد فتحي عثمان- دولة الفكرة التي أقامها رسول الإسلام عقب الهجرة (ص 6) مكتبة وهبة- القاهرة. [2] المرجع السابق، الصفحة نفسها. [3] د. محمد البهي: الدين والدولة من توجيه القرآن الكريم (ص 490) دار الفكر- بيروت (سنة 1971 م) . [4] دولة الفكرة (ص 61) . [5] صادق عرجون- نظام الحكم في الإسلام (ص 30) مكتبة وهبة- القاهرة.