النبي صلّى الله عليه وسلم، المبعوث رحمة للعالمين، لم يكن يهدف إلى الحرب من أجل الحرب ولم يكن القتال في حد ذاته هدفا من أهدافه، وإنما هو وسيلة لإزالة العقبات من أمام الدعوة الإسلامية، فإذا انسحب الروم من ميدان المعركة؛ فلا داعي إذن لملاحقتهم وتتبعهم، وإن عادوا عدنا، وعلى الباغي تدور الدوائر.
* ماذا صنع النبي في تبوك؟
بعد أن انسحب الروم من أمام النبي صلّى الله عليه وسلم، عسكر بجيشه في تبوك بضع عشرة ليلة، فماذا صنع في هذه الأيام القصيرة التي قضاها هناك؟ لقد انسحبت الروم تهيبا من لقاء الرسول. فيجب أن يقضي على نفوذهم أيضا، وأن يزيل ما بقي لهم من هيبة عند سكان هذه المنطقة. وهم أهل أيلة وأذرح والجرباء ودومة الجندل [1] .
ولكن كيف؟ سكان هذه الواحات كانوا يخضعون للروم بصورة أو بأخرى، وينفذون سياستهم، والروم قد انسحبوا من الميدان، وهذه الواحات ستكون على أكبر قدر من الأهمية بالنسبة للمسلمين في صدامهم القادم والأكيد مع الروم، فسوف تكون هذه المناطق ممرات لجحافل المسلمين، ويجب أن يؤمنوا هذا الطريق ويخضعوه لسلطانهم، ويقضوا على كل أثر لسلطان الروم على هذه المناطق.
الروم قد انسحبوا من الميدان، ولو كان الرسول صلّى الله عليه وسلم يهدف إلى فرض الإسلام على الناس بقوة السلاح كما يزعم أعداء الإسلام، لما كان أسهل من ذلك بالنسبة لهذه المجموعات الصغيرة والضعيفة من سكان أيلة وأذرح والجرباء ودومة الجندل؛ لأنهم لم يكن في مقدورهم أن يرفضوا أو يقاوموا بعد أن انسحب أكبر جيش على وجه الأرض في ذلك الوقت أمام المسلمين. ولكن فرض الإسلام بالقوة أمر غير وارد؛ لأنه لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] لذلك لما جاء وفد أيلة وعلى رأسه يحنّة بن رؤبة [2] إلى النبي صلّى الله عليه وسلم يبدون استعدادهم لقبول شروطه رحب بهم، وأفهمهم أنهم إن لم يقبلوا الإسلام عقيدة فلن يكرهوا على ذلك، بل من حقهم أن يظلوا على [1] أيلة: بالفتح مدينة على ساحل بحر القلزم- البحر الأحمر- مما يلي الشام. أذرح: وهو اسم بلد في أطراف الشام من أعمال الشراة ثم من نواحي البلقاء وعمان مجاورة لأرض الحجاز. الجرباء: موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام، قرب جبال السراة من ناحية الحجاز. راجع معجم البلدان لياقوت. عن أيلة (1/ 292) - وعن أذرح (1/ 129) وعن الجرباء (1/ 118) . أما دومة الجندل فقد سبق تعريفها. [2] انظر ابن الأثير (2/ 280) .