وأزالت كل حرج عن المسلمين في علاقتهم مع كل الأمم، خصوصا مع أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى. ونحن الآن في العام التاسع الهجري، وأوشك النبي صلّى الله عليه وسلم أن يودع الأمة الوداع الأخير، وأن يلتحق بالرفيق الأعلى، فلا بد أن يوضح لأمته معالم طريق المستقبل، وأن يرسم لهم أسلوب عملهم في نشر عقيدتهم، والدفاع عنها ضد أعدائها. لذلك جاءت هذه الآيات لتحدد الشكل النهائي والحاسم في علاقات المسلمين بأهل الكتاب، والروم من أهل الكتاب؛ لأنهم مسيحيون، أو يزعمون أنهم على دين المسيح. فقال تعالى: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التوبة: 29] .
وقد بينت الآية بيانا واضحا لماذا يقاتل المسلمون أهل الكتاب:
أولا: لأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانيا: لأنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.
ثالثا: لأنهم لا يدينون دين الحق.
هذا إذن الحكم النهائي الذي يحدد العلاقات بين المسلمين وأهل الكتاب- يهود نصارى- «والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلا على هذا الأساس، أساس إعطاء الجزية، وفي هذه الحالة تقرر لهم حقوق الذمي المعاهد، ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين، فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين. إنهم لا يكرهون على اعتناق الإسلام عقيدة، فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [البقرة: 256] ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس، هذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلا بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية، ثم لطبيعة المنهج الحركي للإسلام من الناحية الآخرى. وطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة، قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من