جاءت الأحداث بعد هذا مصدقة لنظرة الرسول صلّى الله عليه وسلم. فبعد سنوات قليلة سوف يسلك المسلمون هذا الطريق لقهر الروم- أصحاب السلطان عليها- في خلافة الصديق رضي الله عنه فلا بد أن تكون هذه المناطق خالصة لهم، ولا بد أن يهزوا نفوذ الروم ويقضوا على هيبتهم فيها.
نعود إلى قصة رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل.
وصلت رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم إلى هرقل- إمبراطور الروم- حملها له دحية بن خليفة الكلبي وكان نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد عبد الله ورسوله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد؛ فأني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فعليك إثم الأريسيين [1] .
وقُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ» .
فماذا كان ردّ هرقل على هذه الرسالة التي جاءته من نبيّ الإسلام، يدعوه فيها وقومه إلى دين الله الحق، دعوة سلمية بالحكمة والموعظة الحسنة، خالية من أي تهديد بالحرب، أو استخدام القوة؟
تذكر بعض مصادرنا التاريخية أن هرقل استقبل رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم استقبالا حسنا، بل مال إلى الإسلام، ولكنه لما عرض ذلك على رجال الدين المسيحي رفضوا وعارضوه بقوة [2] ، فردّ على النبي صلّى الله عليه وسلم ردّا مهذبا واعتذر عن عدم قبول الإسلام؛ بسبب موقف رجال الدين المسيحي الذين لم يكن في استطاعته إغضابهم. وبعض مصادرنا التاريخية الآخرى لا تشير إلى رد هرقل على رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم. ونستطيع أن نقول: إن تطور العلاقات بين المسلمين والروم بعد وصول رسالة النبي إلى هرقل يدل على أن الروم قد أخذوا جانب عداء الإسلام ومقاومته.
والذي يبدو لنا أن هرقل لم يحفل كثيرا برسالة النبي ولم يقدر خطورتها، فهو كان عائدا- عندما تسلم الرسالة- من حربه مع الفرس، تلك الحرب التي أشرنا إليها والتي انتصر فيها على فارس انتصارا ساحقا؛ لذلك لم يكن يتصور أن ما يحدث في [1] الأريسيين- وجاء مكانها في بعض الروايات الأكاريين- أو الفلاحين- ويبدو أن المقصود بها هنا رعايا هرقل الروم وغيرهم. [2] تاريخ اليعقوبي (2/ 77) .