33].. إذا فليست الشريعة دراسة طبيعة، ولم يكن القرآن كتاب علم بالذات
سوى إشارات عابرة جاءت في عرض الكلام، وإلماعات خاطفة وسريعة الى بعض أسرار
الوجود، والى طرف من كوامن أسباب الحياة، لكن إجمالا وفي غموض تامّ يعرفها العلماء
الراسخون، إذ لم تصدر على سبيل القصد والبيان، وهي في نفس الوقت تنمّ عن خضمّ بحر
لا ينفد، وعن مخزون علم لا يتناهى {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا
لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي}
[الكهف: 109].. نعم، إنّها شذرات بدت من طيّ كلامه تعالى، ورشحات فاضت من عرض
بيانه، كانت عظيمة وفخيمة، كلّما تقدّمت ركب الحضارة، وتألّق نجم العلم والمعرفة
على آفاق الوجود، وإذا بالقرآن يسبق الانسان بخطوات، ولا يكاد يلحق أذياله في هذا
المسير {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89])[1]
ثم يبين وجه الإعجاز في هذا، فيقول: (إذا أضفنا الى هذه الحقيقة المذهلة،
أنها عرضت على يد رجل امّي لا يكتب ولا يقرأ عن كتاب ولا درس عند استاذ، من امّة
عربية جاهلة، وفي بيئة بدوية متوغّلة في البداوة، في صحراء جرداء قاحلة، بعيدة عن
حضارات الامم وثقافات العالم بمسافات شاسعة، فنحن إذا أمام معجزة خارقة للعادة، لا
شكّ فيها ولا ريب، وإنّما يكابر فيها من استغلق على نفسه مشارع البصيرة، وعاقب
نفسه إذ حجب عنها إشعاع تلك الرحمة التي يشعّها هذا الكتاب الكريم.. {إِنَّا
هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] {فَإِنَّهَا
لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ}
[الحج: 46])
ثم يبين وجه تأييده ودعوته لهذا النوع من البحوث في الإعجاز القرآني
بقوله: (وليعلم أنّنا في هذا العرض إنّما نحاول فهم جانب من الآيات الكونية، ربّما
صعب دركها