قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة تقتضي نقصان فصاحته، ومع ذلك فإنه في الفصاحة
بلغ النهاية التي لا غاية لها وراءها فدل ذلك على كونه معجزا، أحدها: أن فصاحة
العرب أكثرها في وصف مشاهدات مثل وصف بعير أو فرس أو جارية أو ملك أو ضربة أو طعنة
أو وصف حرب أو وصف غارة وليس في القرآن من هذه الأشياء شيء فكان يجب أن لا تحصل
فيه الألفاظ الفصيحة التي اتفقت العرب عليها في كلامهم.. وثانيها: أنه تعالى راعى
فيه طريقة الصدق وتنزه عن الكذب في جميعه وكل شاعر ترك الكذب والتزم الصدق نزل
شعره ولم يكن جيدا ألا ترى أن لبيد بن ربيعة وحسان بن ثابت لما أسلما نزل شعرهما.
ولم يكن شعرهما الإسلامي في الجودة كشعرهما الجاهلي وأن الله تعالى مع ما تنزه عن
الكذب والمجازفة جاء بالقرآن فصيحا كما ترى.. وثالثها: أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح
إنما يتفق في القصيدة في البيت والبيتين والباقي لا يكون كذلك، وليس كذلك القرآن
لأنه كله فصيح بحيث يعجز الخلق عنه كما عجزوا عن جملته.. ورابعها: أن كل من قال
شعرا فصيحا في وصف شيء فإنه إذا كرره لم يكن كلامه الثاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة
كلامه الأول. وفي القرآن التكرار الكثير، ومع ذلك كل واحد منها في نهاية الفصاحة
ولم يظهر التفاوت أصلا.. وخامسا: أنه اقتصر على إيجاب العبادات وتحريم القبائح
والحث على مكارم الأخلاق وترك الدنيا واختيار الآخرة، وأمثال هذه الكلمات توجب
تقليل الفصاحة.. وسادسها: أنهم قالوا إن شعر امرئ القيس يحسن عند الطرب وذكر
النساء وصفة الخيل، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطلب ووصف الخمر،
وشعر زهير عند الرغبة والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فن فإنه يضعف
كلامه في غير ذلك الفن، أما القرآن فإنه جاء فصيحا في كل الفنون على غاية الفصاحة..
وسابعها: أن القرآن أصل العلوم كلها فعلم الكلام كله في القرآن، وعلم الفقه كله
مأخوذ من القرآن، وكذا علم